ثروة في لحية أبي!

قياسي

في عام ٢٠٠٥م اشتغلت فترة بالبنك الأهلي بجدة مسوقاً لمنتجات البنك المختلفة الموجهة للأفراد وهذا يشمل كافة أنواع التمويل الشخصي وبطاقات الائتمان وبرامج الحسابات الجارية.

لم أكن على معرفةٍ كبيرةٍ بتفاصيل المنتجات البنكية المختلفة قبل ذلك فكانت تجربةً مميزةً بالنسبة لي لمعرفة طريقة هيكلة/تطوير هذه المنتجات.

كان من ضمن منتجات التمويل الشخصي منتجاً يسمى (التمويل المضمون) وفكرته بسيطة في كون المقترض يجب أن يضمن قرضه بأصل (Collateral) مقبول لدى البنك كمحفظة أسهم أو وديعة الخ. هذا الأصل يجب أن يساوي (بعد تقدير مخاطر كل أصل) قيمة التمويل على الأقل. فإذا كان لديك فرضاً وديعةً ماليةً قيمتها ٥٠٠ ألف فقد تحصل على تمويلٍ بقيمة ٥٠٠ ألف فإذا عجزت عن تسديد الأقساط قام البنك باستفتاء ما تبقى له من الأصل الضامن.

عادت بي الذاكرة للوراء – أيام طفولتي في القرية – فتذكرت كيف أن القرض المضمون منتج قديم جداً. احتاج أبي للنقد يوماً فذهب لرجل في القرية ليستلف منه مبلغاً لم يكن كبيرا كحجم التمويل البنكي ولكنه كان بضع مئات وكان وقتها قادراً على شراء قطيع من ٦ عنزات بأسعار ذلك الوقت. فلما استلم المبلغ، رفع يده إلى لحيته ونتف منها شعرة وناولها للرجل ثم انصرفنا وأنا عاجز عن فهم ما حدث..

بعد بضعة أشهر، ذهب أبي لذات الرجل فأعاد له المبلغ الذي استلفه منه فما كان من الرجل إلى أن أتى بتلك الشعرة وناولها أبي الذي قام بفتح حزامه وخبأها به!

لم أزل مشدوهاً بتفاصيل هذه القصة التي فسرت لي لم كان أبي – رحمه الله – ينهاني في صغري عندنا كنت أمسك بلحيته أثناء لعبي معه ويغضب إذا نتج عن ذلك سقوط شعرة!

فهل أعجب من قيام أبي بإعطاء الرجل شعرة كضمان أم أعجب من احتفاظ الرجل بها وإعادتها لأبي بعد تسديد الدين!

لقد شاهدت أمامي أول عملية (تمويل مضمون) تمت وكان الأصل الضامن (collateral) هو شعرة من لحية أبي الكثة.

حين تأملت هذه القصة العجيبة، جالت في رأسي العديد من الأسئلة، مالذي جعل هذا الرجل يقبل شعرة كضمان مقابل مبلغ ليس بالقليل قياساً على مستوى المعيشة آنذاك؟ قيمتها الفعلية لا يساوي شيئاً فلابد أن لها قيمةً معنوية!

لقد أدركت أن قيمة الشعرة كانت مرتبطة بقوة ومصداقية كلمة/التزام صاحبها! وهذا بدوره يؤكد مدى أهمية (الكلمة/السمعة) في ذلك المجتمع الصغير المغلق حيث كانت سمعة الشخص هي قيمته الفعلية!

عدت فتأملت واقعنا المعاصر حيث أنه ومع الضمانات المادية (سواء شيكات أو كمبيالات أو غيرها) فإننا نسمع قصصاً عجيبة عن تملص الكثير من كلمتهم/التزامهم حتى بين الأقارب والأرحام فمالذي حدث لنا؟

مع انتشار المدنية وتوسع المجتمعات تحول الشخص من (عَلَم) إلى (نَكِرَة)..شخص من الناس، واحد من مئات الألوف أو الملايين!

مع انتشار التمدّن، أصبح الشخص قادراً على العيش ضمن مجتمعات أخرى بينما كان قديماً لا يستطيع العيش إلا ضمن قبيلته/عشيرته/مساحته ومنها يستمد قوته وعليه أن لا يقوم بما يؤثر عليهم سلباً فكان يعيش بناءاً على التزام أدبي/أخلاقي (Code of conduct)

لو قصصت على شاب اليوم كيف أن أبي كان يستلف المال بضمان شعرة من لحيته لضحك من سذاجتي ومن مثالية أبي ولقال لي سلفني بضعة ألوف وتعال معي للحلاق اجمع كل شعري، لحية ورأساً!

لقد علمني أبي – رحمه الله – أن شعرة لحيته هي كلمته وأن احترام الكلمة هو القيمة الحقيقة للإنسان!

أعلم أنني لن أستطيع الحصول على تمويل مضمون من أي بنك اليوم مقابل منحهم شعرة من ذقني كضمان لذلك لكنني فخور بأنني عشت يوماً في مجتمع كانت فيه شعرة من دقن أبي تعادل ثروة، عشت في زمن كنا نساوي فيه ما نقول من كلمات، عشت في زمن كنا فيه أناساً بحق!

رحم الله أبي الذي مات محتفظاً بشعرة لحيته في حزامه..لقد كانت ثروة!

10 رأي حول “ثروة في لحية أبي!

  1. أخي علي .. دائما ما أستمتع بقراءة تدويناتك التي تنم عن عقلية جميلة رائعة .. أسأل الله عز وجل أن ينفع بك .. وأن يرحم والدك ووالدي وسائر أموات المسلمين ..

    في هذا الزمان .. للأسف .. لم تعد هنالك “كلمة رجال” بل أصبح الرجال بلا كلمة .. بلا هيبة .. بلا رجولة .. للأسف !!

  2. سلطان جعفري

    سأضيف هذه الحكاية الى القليل من الحكايات التي احفضها عن المجتمع الجنوبي الاصيل

    مرور سريع ؛)

اترك رداً على Abdullah Sheneamer إلغاء الرد