المشاعر المقتضبة!

قياسي

لا أعلم هل أصبح وقتنا أكثر أهمية أم أن مشاعرنا أصبحت أقل إنسانية..وأكثر جفافاً..

أذكر في قريتي قبل عقود ثلاثة مضت كنّا نفرح بصدق وكما ينبغي للفرح أن يدوم ونحزن بعمق وكما ينبغي للحزن أن يدوم..

أفراحنا كانت تتعلق بمناسبات اجتماعية ليست مختلفة عن مناسبات اليوم.

حفلات الطهور (الخِتان) كانت تستمر ٣-٥ أيام، يسمع بها القاصي والداني ويدعى لها الأقارب والجيران والأصدقاء والقرى المحيطة ويجتمع الناس يرقصون الرقصات الشعبية على قرع الطبول وتذبح الذبائح ويشارك الجيران في الطبخ والولائم ويكشخ (الدّرم: الشخص الذي يتم طهوره) ويتلقى الهدايا المالية ويتزين بها تحت طاقيته..

كذلك حفلات الزواج تبدأ قبل الليلة المحددة بأيام تقوم خلالها سيدة بالمرور على بيوت القرية بيتاً بيتاً تعزم النساء بشكل شخصي باسم صاحبة الدعوة بدون كروت دعوة قائلة (فلانة حابّة حضوركم ليلة كذا وكذا) أما الرجال فلا يحتاجون دعوة، فيشارك الجميع في الفرح ويتم تقديم الهدايا المادية (الرفد) والعينية (الذبائح) ويستمر الفرح حتى بعد تلك الليلة حيث تقوم ذات السيدة التي مرت على البيوت تعزمهم بجولة ثانية توزع خلالها الحلويات الشعبية وقطع القماش كهدايا للمقربين..الجميع يشعر بالفرح ويشارك فيه وينشره..

في الحزن أيضاً يحزن الجميع، بصدق. فإذا مات شخص في القرية، تحزن القرية عن بكرة أبيها فتختفي كل مظاهر الفرح والتسلية فلا نشغل التلفزيون لأسابيع ولا تسمع صوت مذياع يصدح بغناء من بيت أو سيارة..تشعر بألم الحزن في كل زاوية ومظهر الحزن بادياً على كل وجه تقابله ويستمر الجميع في ذكر مآثر المتوفي وذكرياتهم معه/معها لشهور..

مناسباتنا اليوم فرحها كحزنها..مقتضب، لا نفرح بحق ولا نحزن بحق..الفرح والحزن ينبغي أن يأخذا وقتهما ونحن لم يعد لدينا هذا الوقت..أو المشاعر!

نذهب للعزاء لنجلس لدقائق نقوم بعدها نربت على أكتاف أناس اصطفوا لجعل حزننا مقتضباً طيلة الثوان التي تفصل بين أول الصف وآخره..

نذهب لحفلات الزواج فيصطف الناس لنسلم عليهم بنفس الطريقة ونهمهم بنفس الكلمات ونجلس في صمت كجلوسنا بانتظار انتهاء مقاطع القرآن في العزاء..يأتي وقت العشاء فنقوم نتسابق للأكل ثم ما نلبث أن ننسحب خارجين عائدين لبيوتنا..

تباً لمشاعرنا المقتضبة..

رأيان حول “المشاعر المقتضبة!

  1. ابو عمر

    مع فارق السن بيننا يا استاذ علي … و اعترافي بانني غير مرتبط بجذوري الجنوبية ارتباطا قويا .. فانا ابن المدينة نشأة و تربية الا انني اشاركك في رايك و خصوصا اخر جملة :)…

    و لكن ما الحل، خصوصا ان ابناء المدينة … يجدون انفسهم مجبرون على المجاملة او “اقتضاب” المشاعر حتى لا يقال “ما يعرف الواجب ولا يقدر”.

    اتمنى ان اجد الاجابة فعلا…

  2. السبب في تغير هذه المشاعر يا استاذي هي سطوة عصر العقل المادي الممنطق وطغيانه على عقلنا الروحي “مركز المشاعر”
    هذه احد افرازات عصر المادة “عصر التكنولوجيا” لكن هناك بوارق امل كثيرة تبشر بعودة عصر الانسان الحقيقي ويطلقون عليه اسم عصر الحكمة وهو تلاقح بين العقل المادي والعقل الروحي سيخلق توازن بين مشاعرنا وعقولنا
    جميع البشر سئموا من مفرزات المادة التي جففت المشاعر و قطعت الأواصر وأنتجت الحروب وبما انك في مجال التسويق راقب الحملات الإعلانية ستجدها أصبحت ميالة اكثر وأكثر لمخاطبة المشاعر وتقوية العلاقات الانسانية بغض النظر عن المنتج او الخدمة

اترك تعليقاً على التدوينة