طفل في الصباح، رجل في المساء!

قياسي

في القرى، نتوق لنصبح رجالاً بمجرد أن نبدأ بالمشي. الرجولة هي طموح كل طفل، فإذا غاب أبوك فأنت رجل البيت، أنت الذي يعتمد عليه..

صبيحة يوم عندما ذهبت للدكان الوحيد بالقرية – دكان العم شعيب رحمه الله – لأشتري بُسْكت غوّار قال لي (أشاك تذري (تبذر الحبوب) معايه اليوم، أهب لك ٥ ريال في امساعة – الساعة) فلمعت عيناي وقلت له متى؟ قال بعد شوية تمرني الحراثة. أخذت البسكويت وقلت له: مروني البيت اذا جاءت الحراثة.

كان هذا بداية موسم حرث الأرض بعد أسابيع من هطول الامطار الموسمية وزراعة الذرة الرفيعة هي السائد في منطقتنا حيث نأكل منها ونبيع. والزراعة في قريتي كانت تتم بناء على الموسم الذي يتحدد بمعرفة النجوم وكان عمي علي – توفي رمضان الماضي رحمه الله- أحد الخبراء القلائل في معرفة النجوم وكانت القرية تنتظر حتى تراه يبدأ بحرث أرضه فيبدأون بحرث أراضيهم.

عدت للبيت سريعاً لاستبدل بنطلون الرياضة الذي كنت ألبسه ولبست حوك (إزار) وحزام لكي أصنع (حذلة) والحذلة هي صنع تجويف صغير في الإزار أسفل السرة (وأعتقد أن الكلمة عربية فصيحة) لكي يوضع بها حبوب الذرة الرفيعة. هذا من الأهمية بمكان حيث يتم ملئ (الحذلة) بالذرة الرفيقة ومنها تغرف بيديك وتبذر.

فيما سبق – أي قبل عصر الحراثات – كانت عملية بذر الأرض تتم باستخدام الثيران وهي عملية مرهقة جداً تستغرق أياما كثيرة حيث يتم حرث الأرض (تِلماً تِلما) أي خطّاً خطا. مازال المنظر عالقا بذاكرتي حيث كنت اصحب أبي رحمه الله وهو يحرث أرضنا على ثورين وإذا ارتفعت الشمس تجاه منتصف السماء تلحق بنا أمي ومعاه (الزوادة) أي الغداء.

لم يمض وقت طويل حتى سمعت صوت الحراثة خارج حوش بيتنا فخرجت وركبت مع شخصين آخرين بالاضافة لسائق الحراثة والعم شعيب قال لهم أنه سوف يلحق بنا على حماره.

انطلقت بنا الحراثة للأرض التي سوف يتم حرثها وبذر الذرة الرفيعة بها وماهي إلا دقائق قليلة حتى وصل العم شعيب يحمل معه الحب الذي سوف نبذر الأرض منه – وجرت العادة ان يتم انتخاب افضل نوعية حبوب من كل موسم وتحفظ ليتم استخدامها لزراعة الموسم القادم حفاظا على جودة البدور – وقام كل واحد منا بملئ (حذلته) بالحبوب واتخذنا مجالسنا على عدة الحراثة وهي مكان غير مريح رغم الكراتين التي وضعناها تحتنا لتحمي مؤخراتنا من الحديد.

انطلقت الحراثة لبداية الحقل ويتم إنزال المحراث للأرض فينغرس في الأرض ثم تنطلق تسحبنا خلفها ونحن نغرف الحبوب كل من حذلته ونبدأ بإفلاس الحبوب في (الجَلَب) وهو فتحة حديدية في رأس المحراث ينزل من خلالها الذرة لباطن الأرض. المحراث به ٥-٦ رؤوس عادة وعندما نصل لنهاية الحقل يتم رفع المحراث – ونحن جلوس فوقه – والالتفاف للعودة بنفس الاتجاه. عملية رفع المحراث وإنزاله مؤلمة لنا ونحن جلوس على كراتين واهية موضوعة على محراث حديدي. ناهيك عن ألم المحراث، التنفس والنظر هو معاناة أخرى حيث انه بمجرد ان يتم غرس المحراث والانطلاق فإن التراب القادم من كفرات الحراثة الكبيرة تستقبله ظهورنا ومؤخرات رؤوسنا والغبار الناتج من حركة المحراث تستقبله وجوهنا. الزميلان اللذان كانا بجواري محترفان فقد قام كل منهما بلف شماغ حول رأسه وتلثم به معطيا أنفه وفمه أما أنا فلم أفكر بهذا ولهذا استقبل وجهي كل الغبار.

استمر عملنا عدة ساعات حيث انهينا الحقل الاول واسترحنا قليلا لشرب الماء ثم عدنا مرة أخرى لاستقبال بقية الحقول. تشتد الشمس وحرارة الشمس مع حرارة الحراثة وحديد المحراث تلسعنا من كل جانب..

انتهينا قرب صلاة العصر وكان العم شعيب قد عاد قبل انتهائنا لكي يعرف الوقت الذي استغرقناه حيث ان حسابنا وحساب صاحب الحراثة بالساعة.

انطلق قبلنا على حماره وطلب منا اللحاق به للدكان لكي يحاسبنا.

كنت اتحرق شوقاً لاستلام أول مقابل نقدي لعمل أقوم به. سألت صاحب الحراثة كم ساعة؟ فقال ٧ ساعات، ففرحت فقد كنت وقتها في الصف الرابع تقريبا واعرف كيف احسب ٧x٥ وتخيلت ٣٥ ريال – مبلغ فخم!

وصلنا للدكان وكان من ينظر لي يموت ضحكا حيث أن وجهي ورأسي تغطي تضاريسه طبقة تراب كثيفة لا يُرى منها سوى عينان تلمعان وتدمعان بسبب الغبار الذي انتهك حرمتهما!

ناداني العم شعيب لداخل الدكان ودخلت مادا يدي لاستلام المبلغ المعلوم ٣٥ ريال فوجدته واقفا يسألني (ماهو تشا؟) فقلت ٣٥ ريال، قال لك عندي ٣٥ ريال – ماهو تشا بها؟ قلت أشاها (أريدها)!

قال زلط (أي فلوس/نقد) ماشي، هذا الدكان قدامك خذ اللي تبغاه بخمسة وثلاثين ريال.

للحظة حقدت عليه وغضبت ولكن في الأخير أيقنت أنه لا مفر. قمت باختيار بضائع للبيت فاشتريت زيت أبو بنت وسنكر وشاهي وملح وسمن (كنا نسميه خشبي أي نباتي) وصلصة وزبدة البرميل ولم أنس بسكويت غوار والميزان للإفطار الصباحي.

حملت الأغراض وعدت لبيتنا ماشياً نافخاً صدري منتشياً، لقد كسبت من عملي وصرت أصرف على البيت. عدت وأعطيت هذه الأغراض لأمي وأنا أشعر بفخر استثنائي..

ذلك اليوم، غادرت بيتنا طفلاً وعدت له رجلاً..

 

IMG_6395-0.JPG
الصورة للسيد ناصر فلوس @naser144_floos وهي من موسم هذا العام في جيزان وقد أثارتني وذكرتني بهذه القصة التي قررت مشاركتها معكم.

ثروة في لحية أبي!

قياسي

في عام ٢٠٠٥م اشتغلت فترة بالبنك الأهلي بجدة مسوقاً لمنتجات البنك المختلفة الموجهة للأفراد وهذا يشمل كافة أنواع التمويل الشخصي وبطاقات الائتمان وبرامج الحسابات الجارية.

لم أكن على معرفةٍ كبيرةٍ بتفاصيل المنتجات البنكية المختلفة قبل ذلك فكانت تجربةً مميزةً بالنسبة لي لمعرفة طريقة هيكلة/تطوير هذه المنتجات.

كان من ضمن منتجات التمويل الشخصي منتجاً يسمى (التمويل المضمون) وفكرته بسيطة في كون المقترض يجب أن يضمن قرضه بأصل (Collateral) مقبول لدى البنك كمحفظة أسهم أو وديعة الخ. هذا الأصل يجب أن يساوي (بعد تقدير مخاطر كل أصل) قيمة التمويل على الأقل. فإذا كان لديك فرضاً وديعةً ماليةً قيمتها ٥٠٠ ألف فقد تحصل على تمويلٍ بقيمة ٥٠٠ ألف فإذا عجزت عن تسديد الأقساط قام البنك باستفتاء ما تبقى له من الأصل الضامن.

عادت بي الذاكرة للوراء – أيام طفولتي في القرية – فتذكرت كيف أن القرض المضمون منتج قديم جداً. احتاج أبي للنقد يوماً فذهب لرجل في القرية ليستلف منه مبلغاً لم يكن كبيرا كحجم التمويل البنكي ولكنه كان بضع مئات وكان وقتها قادراً على شراء قطيع من ٦ عنزات بأسعار ذلك الوقت. فلما استلم المبلغ، رفع يده إلى لحيته ونتف منها شعرة وناولها للرجل ثم انصرفنا وأنا عاجز عن فهم ما حدث..

بعد بضعة أشهر، ذهب أبي لذات الرجل فأعاد له المبلغ الذي استلفه منه فما كان من الرجل إلى أن أتى بتلك الشعرة وناولها أبي الذي قام بفتح حزامه وخبأها به!

لم أزل مشدوهاً بتفاصيل هذه القصة التي فسرت لي لم كان أبي – رحمه الله – ينهاني في صغري عندنا كنت أمسك بلحيته أثناء لعبي معه ويغضب إذا نتج عن ذلك سقوط شعرة!

فهل أعجب من قيام أبي بإعطاء الرجل شعرة كضمان أم أعجب من احتفاظ الرجل بها وإعادتها لأبي بعد تسديد الدين!

لقد شاهدت أمامي أول عملية (تمويل مضمون) تمت وكان الأصل الضامن (collateral) هو شعرة من لحية أبي الكثة.

حين تأملت هذه القصة العجيبة، جالت في رأسي العديد من الأسئلة، مالذي جعل هذا الرجل يقبل شعرة كضمان مقابل مبلغ ليس بالقليل قياساً على مستوى المعيشة آنذاك؟ قيمتها الفعلية لا يساوي شيئاً فلابد أن لها قيمةً معنوية!

لقد أدركت أن قيمة الشعرة كانت مرتبطة بقوة ومصداقية كلمة/التزام صاحبها! وهذا بدوره يؤكد مدى أهمية (الكلمة/السمعة) في ذلك المجتمع الصغير المغلق حيث كانت سمعة الشخص هي قيمته الفعلية!

عدت فتأملت واقعنا المعاصر حيث أنه ومع الضمانات المادية (سواء شيكات أو كمبيالات أو غيرها) فإننا نسمع قصصاً عجيبة عن تملص الكثير من كلمتهم/التزامهم حتى بين الأقارب والأرحام فمالذي حدث لنا؟

مع انتشار المدنية وتوسع المجتمعات تحول الشخص من (عَلَم) إلى (نَكِرَة)..شخص من الناس، واحد من مئات الألوف أو الملايين!

مع انتشار التمدّن، أصبح الشخص قادراً على العيش ضمن مجتمعات أخرى بينما كان قديماً لا يستطيع العيش إلا ضمن قبيلته/عشيرته/مساحته ومنها يستمد قوته وعليه أن لا يقوم بما يؤثر عليهم سلباً فكان يعيش بناءاً على التزام أدبي/أخلاقي (Code of conduct)

لو قصصت على شاب اليوم كيف أن أبي كان يستلف المال بضمان شعرة من لحيته لضحك من سذاجتي ومن مثالية أبي ولقال لي سلفني بضعة ألوف وتعال معي للحلاق اجمع كل شعري، لحية ورأساً!

لقد علمني أبي – رحمه الله – أن شعرة لحيته هي كلمته وأن احترام الكلمة هو القيمة الحقيقة للإنسان!

أعلم أنني لن أستطيع الحصول على تمويل مضمون من أي بنك اليوم مقابل منحهم شعرة من ذقني كضمان لذلك لكنني فخور بأنني عشت يوماً في مجتمع كانت فيه شعرة من دقن أبي تعادل ثروة، عشت في زمن كنا نساوي فيه ما نقول من كلمات، عشت في زمن كنا فيه أناساً بحق!

رحم الله أبي الذي مات محتفظاً بشعرة لحيته في حزامه..لقد كانت ثروة!

مدير المقصف آكل البيض!

قياسي

لا أخفي سراً إذا قلت أن برنامج التغذية المدرسية يكاد يكون السبب الوحيد لالتحاقي بالدراسة في عام ١٤٠٠هـ وقد اقترب عمري وقتها من الثامنة حيث كنت يومياً ارقب ابن عمي الكبير حين يعود ظهراً من المدرسة فيريني مالم تر عيني من قبل وما لم يتوفر قط في دكان العم شعيب (رحمه الله) – الدكان الوحيد بالقرية – فقد كان يريني (البُسْكُت) وأحياناً يكسر لي نصف حبة لأتذوقها فأتركها تذوب ببطئ في فمي وفي أغلب الأحيان يروي لي أسماء وأشكال بقية النفائس التي أكلها في المدرسة ويترك العنان لمخيلتي في تصور شكلها وطعمها. كان يخبرني عن حليب يأتي “مقرطس في باغه” لا يشبه حليب بقرتنا وغنمنا وماعزنا – عجيب! كان يخبرني عن أشياء يسميها الكيك والجبنة والشيبس والفول السوداني وانا أواصل تخيل هذه النفائس وأمسح ريقي بيدي!

تواتر الكلام في القرية عن التغذية المدرسية وتعبت من سؤال العم شعيب – كلما مررت بدكانه – عن الجنبة والفول السوداني والشيبس وهو يعيد نفس الجواب (عندي مشبك وصبّاع زينب ولبان بيض الحمام) وعندها كان لابد من الدراسة لأنهل من هذا العلم اللذيذ حتى أشبع!

قبل أيام من بداية الدراسة – وكنا نعرف ذلك بعودة المدرسين ذوي البشرة البيضاء الذين تفوح منهم رائحة غريبة عرفت فيما بعد ان اسمها صابون – ذهبت لأبي – رحمه الله – أطلب منه تسجيلي بالمدرسة فأخبرني أنني يجب أن أتصور آولاً، كيف؟ قال: تروح صامطة – تبعد عن قريتي ٢٥كلم ولا تتوفر المواصلات إليها إلا يوم سوقها الأسبوعي كل اثنين – تتصور! فبادرت و(زكّنت) على أحد أصحاب السيارت أن يمر علي يوم الاثنين وفي فجر الاثنين لبست ثوباً استلفته وركبت (الجيب الربع أبو شراع) مع ٤ آخرين وشاتين بأبنائهما فرآني أكبرهم سنا (كاشخا) فسألني لم أنا ذاهب للسوق بالثوب – ولم يكن يلبس الثوب وقتها إلا المسافر لجدة أو الرياض – فأخبرته لأتصور فقال (الله يستر على عيونك يا ولدي) فخفت واستفسرت منه وأنا الذي لم أتصور قط ولا أعرف مالتصوير فقال (الحمار – يعني المصور – يجلسك على تخت قدام مكينة وهو يروح يندس ويغطي رأسه وبعدها يطلع منها كاللهب يعمي عيونك) فأرعبني لدرجة أنني كدت أن أتراجع من أمام الاستوديو لولا أن تذكرت طعم البُسْكُت وما تخيلته عن كل الأطعمة التي ذكرها لي ابن عمي!

دخلت فألبسني المصوراتي شماغاً وعقالاً وأجلسني على كرسي وبدأ المشهد الذي ذكره (الشايب) في السيارة يحدث كما وصف فعلاً فملت بوجهي لليمين قليلاً – أعور أفضل من أعمى كما قلت لنفسي – فعاد المصوراتي يصحح من جلستي بمواجهة (الكيمرة) وإذا ذهب ليدس رأسه عدت وملت بوجهي حتى لمعت الكيمرة وقلبي يرجف بشدة! عذاب بسيط مقابل اللذائذ المنتظرة.

عدت لأخذ الصور ووجهي بها مائل قليلاً لليمين وعدت مع نفس من جئت معهم متشوقاً لإتمام إجراءات تسجيلي بسرعة فكل يوم يضيع مني يفوتني صندوق تغذية لا يعوض والدراسة على وشك البداية.

تمت إجراءات تسجيلي بملف أخضر علاقي ومعروض كتبه ابن عمي لمدير المدرسة آنذاك الأستاذ الفاضل يحي ربيع مدخلي وصورتي تزين ذلك الملف.

في اليوم الموعود الذي ارتقبته كالدهر، لم أنم ليلتها وقبل طلوع كوكب الزهرة كنت مستيقظا فلبست ثوباً خاطته أمي – أطال الله عمرها – لا يختلف عن الكرتة إلا بلونه الأبيض ولبست حينها (الزنوبة) وكنت قبل ذلك لا ألبسها إلا في المناسبات وهل هناك من مناسبة أهم؟

انطلقت ومعي بقية الطلاب لا سيما المستجدون منهم نمشي نحث الخطى باتجاه المدرسة التي تبعد ٣ كلم عن بيتنا ودخلنا من بابها نكحل عيوننا بما لم نرَ من قبل ورأينا الكثير من المدرسين منهم من يلبس جلابية ومنهم من يلبس بنطلوناً وثلاثة سعوديون أحدهم المدير الذي يأتي على سيارة من قرية مُجْعُر والآخر يأتي على دباب هوندا من قرية صاحب البار (لا يوجد بار بالمنطقة ولكنها تسمية) واسمه أحمد بازخ والآخر اسمه يحي مصلح إن لم تخني الذاكرة.

بدأ ما يسمى بالطابور فقام أحد المدرسين بالنفخ في الصافرة وبدأت محاولة صف المستجدين التي استمرت طويلاً ثم انتظمنا وقالوا كلاماً كثيراً بعضه لم أفهمه لكونه بالفصحى وكل تفكيري في التغذية التي سألت ابن عمي عنها فقال في الفسحة.

دخلنا الفصل لدى الأستاذ المصري مصطفى شعبان – رحمه الله – وكل دقيقة أسأل الطلبة الذين رسبوا أكثر مرة ويجلسون في آخر الفصل عن موعد الفسحة مع كل صافرة أسمعها حتى حانت اللحظة العظيمة..

جعلوا الطلاب يصطفون أمام أبواب فصولهم فرأيت كومتين عظيمتين من الكراتين الصغيرة أحدهما أزرق والآخر بني اللون وتم إفهامنا أن الصفوف الثلاثة الأولى تأخذ الكراتين الزرقاء والصفوف العليا تأخذ الكراتين البنية. لم أكن أصدق نفسي عندما أمسكت ذلك الكرتون الصغير ولولا أن أحد المدرسين يقف بجوارنا لأخذت كرتوناً آخر..

ذهبت كبقية الطلاب خارج سور المدرسة الصغير وجلست على الأرض وفتحت الكرتون أتأمل هذه النفائس العجيبة.. حليب ليس كالحليب وهذه هي الجبنة – التي حدثني عنها ابن عمي – ولم أستسغ طعمها كثيراً ولكني أكلتها والفول السوداني والكيك وعصير برتقال..أي نعيم هذا، فلمثل هذا فليدرس الدارسون وإلا فلا!

schoolmeal

حرصت على إبقاء نصف كل شيء لكي أستعرض بها في البيت أمام بقية أخوتي..

نعيم لا يوصف وشوق لليوم الدراسي منقطع النظير لدرجة أنهم أعادوني من منتصف الطريق أول يوم خميس وأنا أحلف لهم أن (الإستاد قال لنا نيجي) وهو يوم عطلة!!!

مرت الأيام سريعاً وانتهى عام كأنه أسبوع وبقيت انتظر بداية العام الجديد وكان أن انتقلنا من فصل الأستاذ مصطفى لفصل الأستاذ أحمد عبدالإله من صعيد مصر وكنا نقرأ القطعة الشهيرة (ناجحون..ناجحون، نجحنا من الصف الاول الابتدائي للصف الثاني الابتدائي….) وأنا انتظر الفسحة..وأجد صعوبة في إيقاف (سعابيلي) ويحين اللقاء من جديد..

مر عام كأنه شهر وفي الإجازة اشترى لي أبي (سيكل) حيث كانت آثار تعلمي لقيادته  بادية على جسمي من أثر السقوط وبقية الرؤوس السوداء من الشوك الذي سقطت عليه عندما طاردتني كلبة (فاطم موسى) وأنا عائد من دكان العم شعيب..

زينت سيكلي بالشلاشل والشطرطون وملعقة بلاستيكية ربطتها بجوار الكفر لتحدث صوتا كلما تحركت..

حرصت في يوم دوامي الأول أن أذهب على سيكلي حيث أربطه بنافذة الفصل وهذا العام انتقلنا لفصل الأستاذ الأردني أحمر البشرة أشقر الشعر محمد هاشم برهم. عندما شاهد مدى تعلقي بسيكلي خلال العام، ناداني لمقدمة الفصل وطلب مني تسميع أنشودة وبعدها مازحني إذا ما كنت مستعداً لأعطي سيكلي لابنته (غدير) على أن يزوجنيها إذا كبرنا فأطرقت برأسي للأرض طويلاً ثم هززته ببطئ مشيراً (لا ) وكان هذا أول اختبار لي في القدرة على تحديد الأولويات وأعتقد أنني نجحت!

كان للأستاذ محمد هاشم طريقة ماتعة في التدريس لكنه كان حازماً ذا صوت جهوري.

خلال هذا العام كان كل همي تذوق الكرتون البني فقد مللت من الأزرق وحفظت الوجبات اليومية وكان طلاب الصفوف العليا يرفضون المقايضة لأنهم يعرفون كرتوننا ويدعون – لا سامحهم الله – أن كرتونهم عجيب به أشياء جديدة. عبثا حاولت إقناع أحدهم بالمقايضة فلم استطع طيلة العام فقلت في آخره لأحدهم: أصلا السنة القادمة سوف آكل من الكرتون البني!

مضت إجازة الصيف كأنها الدهر وأنا انتظر تجربة الكرتون البني.. بدأ العام وأنا متشوق للفسحة حيث كومة الكراتين البنية. انتظرت الصافرة تلو الصافرة حتى حانت الفسحة فانطلقت للساحة وكذا انطلق بقية الطلاب..وساد صمت مريب!

كل منا ينظر للآخر..ننظر للساحة الترابية وليس بها سوى التراب..كيف لم يقم الفراش للآن بإخراج الكراتين من المخزن..ماهذا الإهمال..

جاء أحد المدرسين وصاح بنا (خلاص التغذية تم إيقافها).. سمعت الجملة (خلاص التغذية تم توزيعها) فضحكت وقلت للطالب بجواري ضاحكاً: كيف وزوعها قبل الفسحة؟ استمر المدرس يردد (خلاص التغذية تم إيقافها..من بكرة كل واحد يجيب فطوره معاه من البيت)…بدأت أستوعب الأمر.. صرخت في داخلي صرخة مدوية ..لااااااااااااااااااااااا

أي صدمة..أي خسارة.. في هذه اللحظة تحطمت آمالي وأحلامي..مضى اليوم كئيباً..حزيناً..من لحظة لأخرى أتمنى أن هذا كابوس وسوف أصحوا بعد قليل لأذهب للمدرسة وأتذوق مافي الكرتون البني لأول مرة!

عدت للبيت منكسراً أخبر أهلي بالمصاب الأليم..وفي نفسي أتسائل هل استمر في الذهاب للمدرسة أم اكتفي بالعلم الذي قد حزته واتفرغ لمساعدة أبي في حرث الأرض ورعي الغنم.

مضى الأسبوع الأول وأنا يقل حماسي للدراسة يوماً بعد يوم حيث أحمل معي في الصباح  (معفش أو زلابيا أو لحوح) لآكلها وقت الفسحة وبداخلي سؤال يتردد: كيف لا أذوق مافي الكرتون البني؟ هل سوف يعيدون (التغذية) الأسبوع القادم؟ ربما العام القادم؟

ناداني الأستاذ محمد هاشم وأخبرني أنه اختارني مع اثنين لمقصف المدرسة الذي يقوم بإنشاءه.. ماهو المقصف؟ قال مكان تصلحون فيه ساندوتشات يشتريها الطلاب.. شندويش؟ شندويش ايش يا استاد؟ قال سندوتش بيض وشندويتش جبنة مع مربى..

قام الاستاذ محمد بإنشاء المقصف وعمل كوبونات/أسهم أكتتب بها الطلاب بقيمة ٥ ريالات للسهم وكان هذا أول طرح أولي رأيته في حياتي قبل إنشاء هيئة سوق المال. اجتمعت قرابة ٥٠٠ ريال كان رأس مال مقصفنا فاشترينا منها الصامولي والبيض والجبنة والمربى من بقالة جديدة أكبر من بقالة العم شعيب.. كان يتم سلق البيض في المدرسة في قدر كبيرة. كلفني الأستاذ محمد هاشم بإدارة المقصف وكان هذا أول منصب إداري آكل منه عيش (بالمعنى الحرفي للكلمة) وكان معي اثنين أحدهما اسمه ابراهيم ونسيت اسم الآخر ولعله محمد..

اتفقنا في بداية أول يوم على معايير الجودة ومما اتفقنا عليه أن أي بيضة لا نحسن تقشيرها بطريقة احترافية فلا يجب أن نضعها بداخل الصامولي بل نأكلها..لكم أن تتخيلوا كيف كنا نتعمد تقشيرها بإهمال (لنزلطها) هنيئاً مريئاً حتى كادت مبيعاتنا في اليوم الأول أن تقتصر على سندوتشات الجبنة والمربى فقط!

غير ميزة أكل البيض الذي لا يتم تقشيره جيداً، أهم مزايا هذه الوظيفة كانت الإعفاء من الحصة الثالثة وكانت حصة القواعد المملة!

تبدأ الفسحة فيصطف الطلاب أمامنا وقد وضعنا أكوام الساندوتشات التي أعددناها خلال الحصة الثالثة ويبدأ البيع..كل الطلاب يقفون في هذا الطابور إلا أخي فقد كنت أعطيه سندوتشانان سمينان عظيمان بأحدهما بيضتين وبالآخر نصف علبة جبنة وملعقتي مربى..لم أعرف أن هذا – بالإضافة لتعمد تقشير البيض بإهمال – يسمى فساداً إدارياً إلا لاحقاً..

ما ان ينتهي البيع حتى أجمع الريالات وأحيانا خمسات وأحصيها مع كشف عدد الساندوتشات التي بعناها واذهب لغرفة المدرسين لتسليمها للأستاذ محمد هاشم فيجلسني معهم وينادي الفراش ليصب لي كوب شاهي فاشربه ببطء وأحرص أن يشاهدني أكبر عدد ممكن من الطلاب!

بنهاية الفصل الأول بدأ الاستاذ محمد يبني شيئاً يقال له خشبة المسرح وكان يقضي جل وقته بعد المدرسة يقص الخشب ويبني ويدهن البويا ويضع الستائر ومع بداية الفصل الثاني بدأ يوزع الأدوار ويحفظنا ما نقول وكيف نمثل وكان دوري بسيطاً مع ابن عم لي نفتتح به المسرح نلقي حواراً على مسامع الحضور وكانت أغلب تجاربنا ونحن نرعى الغنم نجأر بصوتينا حتى حفظنا النص..

كانت ليلة المسرح من الليالي المشهودة في القرية يحضرها كل صغير وكبير، بها إلقاء وتمثيل ومسابقات وغناء مع فرقة موسيقية حقيقية ويختمها كبار السن برقص المعشى وهو لون مشهور في جيزان!

توطدت علاقتي بأستاذي وفي العام المقبل كلفني بالإضافة لإدارة المقصف – وقد تحسنت لدي مهارة تقشير البيض كثيراً – بأدوار بطولة في العرض المسرحي لذلك العام حيث لعبت دور النجاشي في أحدها ودور أبي لهب في نص آخر!

ثم بدأ يشركني في طباعة الأسئلة باستخدام آلة تنسخ باستخدام ورق خاص نكتب عليه بقلم ناشف بقوة  فتبرز الكتابة ثم نضع الورقة ذات الكتابة البارزة بالمكينة ونضع عجينة سائلة سوداء ثم ندير عجلة فتنتج نسخا كثيرة متشابهة!

انتهت المرحلة الابتدائية الثرية وانتقلت للمرحلة المتوسطة في مدرسة قريبة يديرها المخضرم القدير الاستاذ الشيخ أحمد أبو طالب زربان!

بعد الصف الاول المتوسط انتقلنا لمدينة جدة..

أنهيت المرحلة المتوسطة وكنت عندما زرت قريتي أسآل عن الاستاذ محمد هاشم فيقال لي انه انتقل مدرساً بقرية كذا وكذا..ثم أنهيت المرحلة الثانوية..واستمرت زياراتي السنوية لقريتي فأسأل عنه فلا أسمع الا أسماء قرى جازانية اخرى يتنقل بينها مدرساً ومشرفاً..

التحقت بالجامعة..تخرجت…التحقت بشركة بروكتر آند جامبل حيث عملت ٨ سنوات، تزوجت وأكرمنا الله بابنتي جنى..انتقلت لوظيفة أخرى فأكرمنا الله بابنتي جود..ثم تنقلت بين عدة وظائف حتى انتقلت للهيئة العامة للاستثمار كوكيل للمحافظ ورئيس تنفيذي للعمليات..ذات يوم كنت أبحث عن شيء على الانترنت فظهر لي اسم قريتي..دخلت فإذا هو منتدى يتحدث عن قرى جازان..صور للسيل والمزارع وبيوت القرية..ثم أجد تعليقا مذيلا باسم (محمد هاشم برهم)..

Barhams

هل يعقل؟ بعد ٣٠ عاماً أجد له أثراً مرتبطاً بقرى جازان وقبائلها ويذكر في تعليقه مشائخ القرية وأعيانها وكأنهم عائلته..أي تعلق وأي حب هذا بقرى جازان وأهلها؟ كنت أقرأ تعليقه وكأنه بخط يده وكان الأستاذ محمد ومازال خطاطاً مبدعاً وكان هو الوحيد الذي يكتب كل مخاطبات المدرسة وشهادات الشكر والتقدير وإشعارات النتائج..كان تعليقه مليئاً بالحزن والحنين وهو البشوش المبتسم الذي إذا ضحك تسمع ضحكته من مسافة بعيدة!

كان الموضوع والتعليق قديمين فقد مر عليهما سنة أو اثنتان.. كتبت رداً مذكراً إياه بطالبه من فئة (المؤلفة بطونهم)..

MyLetterToTeacher

شهور مضت ثم قررت مراسلة إدارة المنتدى التي أرسلت له رسالة خاصة بحيث يتم إشعاره بها عن طريق الإيميل..

بعد شهرين أو ثلاثة يصلني إيميل منه ولم أصدق نفسي..

رددت عليه وطلبت رقم جواله..اتصلت عليه..لم يعد صوته بذات القوة التي مازلت اذكرها..علمت انه تقاعد ومن ثم عاد إلى عمان التي كانت له منتجعاً للإجازات فقط بينما سكنه الدائم هو قرى جازان..حتى صورة بروفايله في واتساب تظهر صورة مدرس شاب محاط بطلاب من قريتي، ياللعجب فمازال الأستاذ محمد هاشم يتذكر أسمائهم واحداً واحداً..أي حب زرعه الله بقلب هذا الرجل لقرى جازان..بحثت عن اسمه في الانترنت فوجدته قَدْ دخل منتدى قرية اللقية (قريتي) وكتب يسأل ان كان مرحباً به..ردود من رواد منتدى خامل يرحبون به بصورة أوتوماتيكية فهم لا يعرفونه..لقد ولدوا على الأرجح قبل عقدين على الأكثر..كيف يردون عليه وهم جلوس؟

BahramS

٣٠ عاما مرت منذ آخر لقاء أو وداع بيننا..

الأسبوع القادم سوف أشد الرحال أنا وزوجتي وابنتي باتجاه عمان الأردن..للقاء أستاذي فلقد كان له سابق الفضل إذ علمني أن أقرأ – بعد إذ كنت أمياً – ففتح الله لي بالعلم دروباً..
وكان له سابق الفضل أن هـذبني بتربية وخلق – بعد أن كنت ذا طيش – ففتح الله لي بذلك عند الناس قلوباً..
وكان له سابق الفضل أن غرس فيَ المسئولية عندما ولاني (قيادة المقصف) في صغري – بعد أن كنت تابعاً – ففتح الله لي بذلك عند الشركات أبواباً.

image

BARHAMSoldPicصورة بروفايل الأستاذ محمد هاشم في واتساب

20140316-115209-pm.jpgصورة حديثة للأستاذ محمد هاشم برهم

***************************
إضافة تمت كتابتها بعد كتابة التدوينة أعلاه بحوالي أسبوع وهي اللحظة التي سجلتها زوجتي خلسة للقائي بأستاذي في بيته في عمّان بعد ٣٠ عاما على آخر لقاء تم بيننا فتعانقنا وبكينا وقضينا أياما نحكي ونتذكر الأيام والطلاب والمدرسين الباقين والراحلين

****************************************

إضافة جديدة: في شهر يناير ٢٠١٦م استضفت استاذي العزيز في منزلي بجدة خلال حضوره حفل زفاف ابنه الكبير طارق الذي تزوج من سعودية وكان حفل الزفاف بهيجا بوفاء زملاء أبي طارق الذين حضروا من جيزان لمفاجأته وتشرفت بليقاهم وبعضهم من اره منذ عام  و١٤٠٦هـ كالأستاذ احمد بازخ ومدير المدرسة وقتذاك الاستاذ يحيى ربيع الذي حضر مباشرة من الرياض وجرح عمليته مازال يقطر دما والأستاذ علي صميلي

   
    
   
*******************************

إضافة في شهر إبريل ٢٠١٦: بدأ أبو طارق أولى جلسات العلاج الكيماوي الذي أخبرني باحتمال إصابته به خلال زيارته لي في جدة. أسأل الله أن يشفيه ويرفع عنه ويلبسه لباس الصحة والعافية

  

************************

إضافة أخيرة وحزينة بتاريخ ٩ نوفمبر ٢٠٢٠م فقد بلغني من ولده اليوم أن أستاذي العظيم محمد هاشم برهم قد انتقل إلي جوار ربه مساء البارحة فاللهم ارحمه واغفر له وتقبل منه وأحسن مدخله وأكرم نزله واجعله في جنات النعيم. اذا مررتم بهذه التدوينة فترحموا عليه. إنا لله وإنا إليه راجعون.

غافلَتْني..وكبرت!

قياسي

تنتابني الليلة مشاعر غريبة لم أعتدها.. أشعر كمن استيقظ من النوم متأخرا عن موعد مهم..أو كمن فاتته رحلة مهمة.. أشعر بخليط من الأحاسيس في الواقع.. حزن وفرح.. قضيت البارحة أستعرض صوراً قديمة..عدت بالذاكرة عقداً من الزمان.. ثم سرَعت شريط الصور/الذكريات حتى وصلت لهذا اليوم..ثم قمت بجمع الصور وقمت بتثبيت أقدمها وتغيير باقي الصور لتغطي مرحلة زمنية أحدث..فكانت هذه هي النتيجة

يوم ولادة ابنتي جنى

في مثل هذا اليوم (غير أنه كان يوم خميس) أطلت ابنتي البكر جنى وأضاءت أركان حياتي بل حياة العائلة..وجه ملائكي يشع براءة..طرت بها فرحا وكنت أحملها كثيراً منذ يومها الأول..

 

2

شاهدت جنى تكبر قليلاً قليلاً..عاماً بعد عام..مازالت صغيرتي صغيرة!

3

هي تكبر وأنا لا ألقي لذك بالاً فهي مازالت صغيرة

4

كلما نظرت إليها أجدها مبتسمة.. فتلهيني عن ملاحظة أنها تكبر كل عام..

5

جاءت بعدها جود.. فلاحظت أنها أصبحت أكبر..قليلا فقط.. مازالت صغيرتي ترتمي على صدري وتقبلني وتقول لي أحبك يابابا..

6

زارتني مرة في مكتبي..فأزاحتني عن الكرسي لتقلدني وهي تضحك لتملأ مكتبي بصدى ضحكاتها..

7

تنجح..من التمهيدي..للصف الأول..للثاني..للثالث..للرابع..لاااااا..يكفي..يكفي..توقفي

8

ثم أصحوا اليوم لأجدها تقف بجواري شامخة تكاد تصل لطولي..ومازالت تمتلك نفس الابتسامة الساحرة الآسرة..

تقف جواري مودعة 10 سنين..عقداً من الزمان..ربع عمري.. جنى تدخل سنتها الحادية عشرة..؟ كيف هذا؟ ألم أكن أحملها على يد واحدة؟

لم يا صغيرتي كبرتِ؟

كيف كبرت هكذا كومضة ضوء..؟

دعينا نتفق..استرقي السنوات على غفلة مني.أما أنا فسوف أقفل عيني لأرى صغيرتي..طفلتي..
هاأنت تنظرين لوجهي بينما أحملك على ذراعي..