مدير المقصف آكل البيض!

مثبت

لا أخفي سراً إذا قلت أن برنامج التغذية المدرسية يكاد يكون السبب الوحيد لالتحاقي بالدراسة في عام ١٤٠٠هـ وقد اقترب عمري وقتها من الثامنة حيث كنت يومياً ارقب ابن عمي الكبير حين يعود ظهراً من المدرسة فيريني مالم تر عيني من قبل وما لم يتوفر قط في دكان العم شعيب (رحمه الله) – الدكان الوحيد بالقرية – فقد كان يريني (البُسْكُت) وأحياناً يكسر لي نصف حبة لأتذوقها فأتركها تذوب ببطئ في فمي وفي أغلب الأحيان يروي لي أسماء وأشكال بقية النفائس التي أكلها في المدرسة ويترك العنان لمخيلتي في تصور شكلها وطعمها. كان يخبرني عن حليب يأتي “مقرطس في باغه” لا يشبه حليب بقرتنا وغنمنا وماعزنا – عجيب! كان يخبرني عن أشياء يسميها الكيك والجبنة والشيبس والفول السوداني وانا أواصل تخيل هذه النفائس وأمسح ريقي بيدي!

تواتر الكلام في القرية عن التغذية المدرسية وتعبت من سؤال العم شعيب – كلما مررت بدكانه – عن الجنبة والفول السوداني والشيبس وهو يعيد نفس الجواب (عندي مشبك وصبّاع زينب ولبان بيض الحمام) وعندها كان لابد من الدراسة لأنهل من هذا العلم اللذيذ حتى أشبع!

قبل أيام من بداية الدراسة – وكنا نعرف ذلك بعودة المدرسين ذوي البشرة البيضاء الذين تفوح منهم رائحة غريبة عرفت فيما بعد ان اسمها صابون – ذهبت لأبي – رحمه الله – أطلب منه تسجيلي بالمدرسة فأخبرني أنني يجب أن أتصور آولاً، كيف؟ قال: تروح صامطة – تبعد عن قريتي ٢٥كلم ولا تتوفر المواصلات إليها إلا يوم سوقها الأسبوعي كل اثنين – تتصور! فبادرت و(زكّنت) على أحد أصحاب السيارت أن يمر علي يوم الاثنين وفي فجر الاثنين لبست ثوباً استلفته وركبت (الجيب الربع أبو شراع) مع ٤ آخرين وشاتين بأبنائهما فرآني أكبرهم سنا (كاشخا) فسألني لم أنا ذاهب للسوق بالثوب – ولم يكن يلبس الثوب وقتها إلا المسافر لجدة أو الرياض – فأخبرته لأتصور فقال (الله يستر على عيونك يا ولدي) فخفت واستفسرت منه وأنا الذي لم أتصور قط ولا أعرف مالتصوير فقال (الحمار – يعني المصور – يجلسك على تخت قدام مكينة وهو يروح يندس ويغطي رأسه وبعدها يطلع منها كاللهب يعمي عيونك) فأرعبني لدرجة أنني كدت أن أتراجع من أمام الاستوديو لولا أن تذكرت طعم البُسْكُت وما تخيلته عن كل الأطعمة التي ذكرها لي ابن عمي!

دخلت فألبسني المصوراتي شماغاً وعقالاً وأجلسني على كرسي وبدأ المشهد الذي ذكره (الشايب) في السيارة يحدث كما وصف فعلاً فملت بوجهي لليمين قليلاً – أعور أفضل من أعمى كما قلت لنفسي – فعاد المصوراتي يصحح من جلستي بمواجهة (الكيمرة) وإذا ذهب ليدس رأسه عدت وملت بوجهي حتى لمعت الكيمرة وقلبي يرجف بشدة! عذاب بسيط مقابل اللذائذ المنتظرة.

عدت لأخذ الصور ووجهي بها مائل قليلاً لليمين وعدت مع نفس من جئت معهم متشوقاً لإتمام إجراءات تسجيلي بسرعة فكل يوم يضيع مني يفوتني صندوق تغذية لا يعوض والدراسة على وشك البداية.

تمت إجراءات تسجيلي بملف أخضر علاقي ومعروض كتبه ابن عمي لمدير المدرسة آنذاك الأستاذ الفاضل يحي ربيع مدخلي وصورتي تزين ذلك الملف.

في اليوم الموعود الذي ارتقبته كالدهر، لم أنم ليلتها وقبل طلوع كوكب الزهرة كنت مستيقظا فلبست ثوباً خاطته أمي – أطال الله عمرها – لا يختلف عن الكرتة إلا بلونه الأبيض ولبست حينها (الزنوبة) وكنت قبل ذلك لا ألبسها إلا في المناسبات وهل هناك من مناسبة أهم؟

انطلقت ومعي بقية الطلاب لا سيما المستجدون منهم نمشي نحث الخطى باتجاه المدرسة التي تبعد ٣ كلم عن بيتنا ودخلنا من بابها نكحل عيوننا بما لم نرَ من قبل ورأينا الكثير من المدرسين منهم من يلبس جلابية ومنهم من يلبس بنطلوناً وثلاثة سعوديون أحدهم المدير الذي يأتي على سيارة من قرية مُجْعُر والآخر يأتي على دباب هوندا من قرية صاحب البار (لا يوجد بار بالمنطقة ولكنها تسمية) واسمه أحمد بازخ والآخر اسمه يحي مصلح إن لم تخني الذاكرة.

بدأ ما يسمى بالطابور فقام أحد المدرسين بالنفخ في الصافرة وبدأت محاولة صف المستجدين التي استمرت طويلاً ثم انتظمنا وقالوا كلاماً كثيراً بعضه لم أفهمه لكونه بالفصحى وكل تفكيري في التغذية التي سألت ابن عمي عنها فقال في الفسحة.

دخلنا الفصل لدى الأستاذ المصري مصطفى شعبان – رحمه الله – وكل دقيقة أسأل الطلبة الذين رسبوا أكثر مرة ويجلسون في آخر الفصل عن موعد الفسحة مع كل صافرة أسمعها حتى حانت اللحظة العظيمة..

جعلوا الطلاب يصطفون أمام أبواب فصولهم فرأيت كومتين عظيمتين من الكراتين الصغيرة أحدهما أزرق والآخر بني اللون وتم إفهامنا أن الصفوف الثلاثة الأولى تأخذ الكراتين الزرقاء والصفوف العليا تأخذ الكراتين البنية. لم أكن أصدق نفسي عندما أمسكت ذلك الكرتون الصغير ولولا أن أحد المدرسين يقف بجوارنا لأخذت كرتوناً آخر..

ذهبت كبقية الطلاب خارج سور المدرسة الصغير وجلست على الأرض وفتحت الكرتون أتأمل هذه النفائس العجيبة.. حليب ليس كالحليب وهذه هي الجبنة – التي حدثني عنها ابن عمي – ولم أستسغ طعمها كثيراً ولكني أكلتها والفول السوداني والكيك وعصير برتقال..أي نعيم هذا، فلمثل هذا فليدرس الدارسون وإلا فلا!

schoolmeal

حرصت على إبقاء نصف كل شيء لكي أستعرض بها في البيت أمام بقية أخوتي..

نعيم لا يوصف وشوق لليوم الدراسي منقطع النظير لدرجة أنهم أعادوني من منتصف الطريق أول يوم خميس وأنا أحلف لهم أن (الإستاد قال لنا نيجي) وهو يوم عطلة!!!

مرت الأيام سريعاً وانتهى عام كأنه أسبوع وبقيت انتظر بداية العام الجديد وكان أن انتقلنا من فصل الأستاذ مصطفى لفصل الأستاذ أحمد عبدالإله من صعيد مصر وكنا نقرأ القطعة الشهيرة (ناجحون..ناجحون، نجحنا من الصف الاول الابتدائي للصف الثاني الابتدائي….) وأنا انتظر الفسحة..وأجد صعوبة في إيقاف (سعابيلي) ويحين اللقاء من جديد..

مر عام كأنه شهر وفي الإجازة اشترى لي أبي (سيكل) حيث كانت آثار تعلمي لقيادته  بادية على جسمي من أثر السقوط وبقية الرؤوس السوداء من الشوك الذي سقطت عليه عندما طاردتني كلبة (فاطم موسى) وأنا عائد من دكان العم شعيب..

زينت سيكلي بالشلاشل والشطرطون وملعقة بلاستيكية ربطتها بجوار الكفر لتحدث صوتا كلما تحركت..

حرصت في يوم دوامي الأول أن أذهب على سيكلي حيث أربطه بنافذة الفصل وهذا العام انتقلنا لفصل الأستاذ الأردني أحمر البشرة أشقر الشعر محمد هاشم برهم. عندما شاهد مدى تعلقي بسيكلي خلال العام، ناداني لمقدمة الفصل وطلب مني تسميع أنشودة وبعدها مازحني إذا ما كنت مستعداً لأعطي سيكلي لابنته (غدير) على أن يزوجنيها إذا كبرنا فأطرقت برأسي للأرض طويلاً ثم هززته ببطئ مشيراً (لا ) وكان هذا أول اختبار لي في القدرة على تحديد الأولويات وأعتقد أنني نجحت!

كان للأستاذ محمد هاشم طريقة ماتعة في التدريس لكنه كان حازماً ذا صوت جهوري.

خلال هذا العام كان كل همي تذوق الكرتون البني فقد مللت من الأزرق وحفظت الوجبات اليومية وكان طلاب الصفوف العليا يرفضون المقايضة لأنهم يعرفون كرتوننا ويدعون – لا سامحهم الله – أن كرتونهم عجيب به أشياء جديدة. عبثا حاولت إقناع أحدهم بالمقايضة فلم استطع طيلة العام فقلت في آخره لأحدهم: أصلا السنة القادمة سوف آكل من الكرتون البني!

مضت إجازة الصيف كأنها الدهر وأنا انتظر تجربة الكرتون البني.. بدأ العام وأنا متشوق للفسحة حيث كومة الكراتين البنية. انتظرت الصافرة تلو الصافرة حتى حانت الفسحة فانطلقت للساحة وكذا انطلق بقية الطلاب..وساد صمت مريب!

كل منا ينظر للآخر..ننظر للساحة الترابية وليس بها سوى التراب..كيف لم يقم الفراش للآن بإخراج الكراتين من المخزن..ماهذا الإهمال..

جاء أحد المدرسين وصاح بنا (خلاص التغذية تم إيقافها).. سمعت الجملة (خلاص التغذية تم توزيعها) فضحكت وقلت للطالب بجواري ضاحكاً: كيف وزوعها قبل الفسحة؟ استمر المدرس يردد (خلاص التغذية تم إيقافها..من بكرة كل واحد يجيب فطوره معاه من البيت)…بدأت أستوعب الأمر.. صرخت في داخلي صرخة مدوية ..لااااااااااااااااااااااا

أي صدمة..أي خسارة.. في هذه اللحظة تحطمت آمالي وأحلامي..مضى اليوم كئيباً..حزيناً..من لحظة لأخرى أتمنى أن هذا كابوس وسوف أصحوا بعد قليل لأذهب للمدرسة وأتذوق مافي الكرتون البني لأول مرة!

عدت للبيت منكسراً أخبر أهلي بالمصاب الأليم..وفي نفسي أتسائل هل استمر في الذهاب للمدرسة أم اكتفي بالعلم الذي قد حزته واتفرغ لمساعدة أبي في حرث الأرض ورعي الغنم.

مضى الأسبوع الأول وأنا يقل حماسي للدراسة يوماً بعد يوم حيث أحمل معي في الصباح  (معفش أو زلابيا أو لحوح) لآكلها وقت الفسحة وبداخلي سؤال يتردد: كيف لا أذوق مافي الكرتون البني؟ هل سوف يعيدون (التغذية) الأسبوع القادم؟ ربما العام القادم؟

ناداني الأستاذ محمد هاشم وأخبرني أنه اختارني مع اثنين لمقصف المدرسة الذي يقوم بإنشاءه.. ماهو المقصف؟ قال مكان تصلحون فيه ساندوتشات يشتريها الطلاب.. شندويش؟ شندويش ايش يا استاد؟ قال سندوتش بيض وشندويتش جبنة مع مربى..

قام الاستاذ محمد بإنشاء المقصف وعمل كوبونات/أسهم أكتتب بها الطلاب بقيمة ٥ ريالات للسهم وكان هذا أول طرح أولي رأيته في حياتي قبل إنشاء هيئة سوق المال. اجتمعت قرابة ٥٠٠ ريال كان رأس مال مقصفنا فاشترينا منها الصامولي والبيض والجبنة والمربى من بقالة جديدة أكبر من بقالة العم شعيب.. كان يتم سلق البيض في المدرسة في قدر كبيرة. كلفني الأستاذ محمد هاشم بإدارة المقصف وكان هذا أول منصب إداري آكل منه عيش (بالمعنى الحرفي للكلمة) وكان معي اثنين أحدهما اسمه ابراهيم ونسيت اسم الآخر ولعله محمد..

اتفقنا في بداية أول يوم على معايير الجودة ومما اتفقنا عليه أن أي بيضة لا نحسن تقشيرها بطريقة احترافية فلا يجب أن نضعها بداخل الصامولي بل نأكلها..لكم أن تتخيلوا كيف كنا نتعمد تقشيرها بإهمال (لنزلطها) هنيئاً مريئاً حتى كادت مبيعاتنا في اليوم الأول أن تقتصر على سندوتشات الجبنة والمربى فقط!

غير ميزة أكل البيض الذي لا يتم تقشيره جيداً، أهم مزايا هذه الوظيفة كانت الإعفاء من الحصة الثالثة وكانت حصة القواعد المملة!

تبدأ الفسحة فيصطف الطلاب أمامنا وقد وضعنا أكوام الساندوتشات التي أعددناها خلال الحصة الثالثة ويبدأ البيع..كل الطلاب يقفون في هذا الطابور إلا أخي فقد كنت أعطيه سندوتشانان سمينان عظيمان بأحدهما بيضتين وبالآخر نصف علبة جبنة وملعقتي مربى..لم أعرف أن هذا – بالإضافة لتعمد تقشير البيض بإهمال – يسمى فساداً إدارياً إلا لاحقاً..

ما ان ينتهي البيع حتى أجمع الريالات وأحيانا خمسات وأحصيها مع كشف عدد الساندوتشات التي بعناها واذهب لغرفة المدرسين لتسليمها للأستاذ محمد هاشم فيجلسني معهم وينادي الفراش ليصب لي كوب شاهي فاشربه ببطء وأحرص أن يشاهدني أكبر عدد ممكن من الطلاب!

بنهاية الفصل الأول بدأ الاستاذ محمد يبني شيئاً يقال له خشبة المسرح وكان يقضي جل وقته بعد المدرسة يقص الخشب ويبني ويدهن البويا ويضع الستائر ومع بداية الفصل الثاني بدأ يوزع الأدوار ويحفظنا ما نقول وكيف نمثل وكان دوري بسيطاً مع ابن عم لي نفتتح به المسرح نلقي حواراً على مسامع الحضور وكانت أغلب تجاربنا ونحن نرعى الغنم نجأر بصوتينا حتى حفظنا النص..

كانت ليلة المسرح من الليالي المشهودة في القرية يحضرها كل صغير وكبير، بها إلقاء وتمثيل ومسابقات وغناء مع فرقة موسيقية حقيقية ويختمها كبار السن برقص المعشى وهو لون مشهور في جيزان!

توطدت علاقتي بأستاذي وفي العام المقبل كلفني بالإضافة لإدارة المقصف – وقد تحسنت لدي مهارة تقشير البيض كثيراً – بأدوار بطولة في العرض المسرحي لذلك العام حيث لعبت دور النجاشي في أحدها ودور أبي لهب في نص آخر!

ثم بدأ يشركني في طباعة الأسئلة باستخدام آلة تنسخ باستخدام ورق خاص نكتب عليه بقلم ناشف بقوة  فتبرز الكتابة ثم نضع الورقة ذات الكتابة البارزة بالمكينة ونضع عجينة سائلة سوداء ثم ندير عجلة فتنتج نسخا كثيرة متشابهة!

انتهت المرحلة الابتدائية الثرية وانتقلت للمرحلة المتوسطة في مدرسة قريبة يديرها المخضرم القدير الاستاذ الشيخ أحمد أبو طالب زربان!

بعد الصف الاول المتوسط انتقلنا لمدينة جدة..

أنهيت المرحلة المتوسطة وكنت عندما زرت قريتي أسآل عن الاستاذ محمد هاشم فيقال لي انه انتقل مدرساً بقرية كذا وكذا..ثم أنهيت المرحلة الثانوية..واستمرت زياراتي السنوية لقريتي فأسأل عنه فلا أسمع الا أسماء قرى جازانية اخرى يتنقل بينها مدرساً ومشرفاً..

التحقت بالجامعة..تخرجت…التحقت بشركة بروكتر آند جامبل حيث عملت ٨ سنوات، تزوجت وأكرمنا الله بابنتي جنى..انتقلت لوظيفة أخرى فأكرمنا الله بابنتي جود..ثم تنقلت بين عدة وظائف حتى انتقلت للهيئة العامة للاستثمار كوكيل للمحافظ ورئيس تنفيذي للعمليات..ذات يوم كنت أبحث عن شيء على الانترنت فظهر لي اسم قريتي..دخلت فإذا هو منتدى يتحدث عن قرى جازان..صور للسيل والمزارع وبيوت القرية..ثم أجد تعليقا مذيلا باسم (محمد هاشم برهم)..

Barhams

هل يعقل؟ بعد ٣٠ عاماً أجد له أثراً مرتبطاً بقرى جازان وقبائلها ويذكر في تعليقه مشائخ القرية وأعيانها وكأنهم عائلته..أي تعلق وأي حب هذا بقرى جازان وأهلها؟ كنت أقرأ تعليقه وكأنه بخط يده وكان الأستاذ محمد ومازال خطاطاً مبدعاً وكان هو الوحيد الذي يكتب كل مخاطبات المدرسة وشهادات الشكر والتقدير وإشعارات النتائج..كان تعليقه مليئاً بالحزن والحنين وهو البشوش المبتسم الذي إذا ضحك تسمع ضحكته من مسافة بعيدة!

كان الموضوع والتعليق قديمين فقد مر عليهما سنة أو اثنتان.. كتبت رداً مذكراً إياه بطالبه من فئة (المؤلفة بطونهم)..

MyLetterToTeacher

شهور مضت ثم قررت مراسلة إدارة المنتدى التي أرسلت له رسالة خاصة بحيث يتم إشعاره بها عن طريق الإيميل..

بعد شهرين أو ثلاثة يصلني إيميل منه ولم أصدق نفسي..

رددت عليه وطلبت رقم جواله..اتصلت عليه..لم يعد صوته بذات القوة التي مازلت اذكرها..علمت انه تقاعد ومن ثم عاد إلى عمان التي كانت له منتجعاً للإجازات فقط بينما سكنه الدائم هو قرى جازان..حتى صورة بروفايله في واتساب تظهر صورة مدرس شاب محاط بطلاب من قريتي، ياللعجب فمازال الأستاذ محمد هاشم يتذكر أسمائهم واحداً واحداً..أي حب زرعه الله بقلب هذا الرجل لقرى جازان..بحثت عن اسمه في الانترنت فوجدته قَدْ دخل منتدى قرية اللقية (قريتي) وكتب يسأل ان كان مرحباً به..ردود من رواد منتدى خامل يرحبون به بصورة أوتوماتيكية فهم لا يعرفونه..لقد ولدوا على الأرجح قبل عقدين على الأكثر..كيف يردون عليه وهم جلوس؟

BahramS

٣٠ عاما مرت منذ آخر لقاء أو وداع بيننا..

الأسبوع القادم سوف أشد الرحال أنا وزوجتي وابنتي باتجاه عمان الأردن..للقاء أستاذي فلقد كان له سابق الفضل إذ علمني أن أقرأ – بعد إذ كنت أمياً – ففتح الله لي بالعلم دروباً..
وكان له سابق الفضل أن هـذبني بتربية وخلق – بعد أن كنت ذا طيش – ففتح الله لي بذلك عند الناس قلوباً..
وكان له سابق الفضل أن غرس فيَ المسئولية عندما ولاني (قيادة المقصف) في صغري – بعد أن كنت تابعاً – ففتح الله لي بذلك عند الشركات أبواباً.

image

BARHAMSoldPicصورة بروفايل الأستاذ محمد هاشم في واتساب

20140316-115209-pm.jpgصورة حديثة للأستاذ محمد هاشم برهم

***************************
إضافة تمت كتابتها بعد كتابة التدوينة أعلاه بحوالي أسبوع وهي اللحظة التي سجلتها زوجتي خلسة للقائي بأستاذي في بيته في عمّان بعد ٣٠ عاما على آخر لقاء تم بيننا فتعانقنا وبكينا وقضينا أياما نحكي ونتذكر الأيام والطلاب والمدرسين الباقين والراحلين

****************************************

إضافة جديدة: في شهر يناير ٢٠١٦م استضفت استاذي العزيز في منزلي بجدة خلال حضوره حفل زفاف ابنه الكبير طارق الذي تزوج من سعودية وكان حفل الزفاف بهيجا بوفاء زملاء أبي طارق الذين حضروا من جيزان لمفاجأته وتشرفت بليقاهم وبعضهم من اره منذ عام  و١٤٠٦هـ كالأستاذ احمد بازخ ومدير المدرسة وقتذاك الاستاذ يحيى ربيع الذي حضر مباشرة من الرياض وجرح عمليته مازال يقطر دما والأستاذ علي صميلي

   
    
   
*******************************

إضافة في شهر إبريل ٢٠١٦: بدأ أبو طارق أولى جلسات العلاج الكيماوي الذي أخبرني باحتمال إصابته به خلال زيارته لي في جدة. أسأل الله أن يشفيه ويرفع عنه ويلبسه لباس الصحة والعافية

  

************************

إضافة أخيرة وحزينة بتاريخ ٩ نوفمبر ٢٠٢٠م فقد بلغني من ولده اليوم أن أستاذي العظيم محمد هاشم برهم قد انتقل إلي جوار ربه مساء البارحة فاللهم ارحمه واغفر له وتقبل منه وأحسن مدخله وأكرم نزله واجعله في جنات النعيم. اذا مررتم بهذه التدوينة فترحموا عليه. إنا لله وإنا إليه راجعون.

الفنانة التي يوماً رسمت لوحة التنين”!

قياسي

قبل ٦ سنوات تقريباً وأثناء موسم الأمطار، تعرضت تبوك لأمطار غزيرة تضرر جراءها الكثير من الأسر فتضامن معهم سكان جدة الذين كانت ذكرى سيول جدة عالقة في ذاكرتهم تحت هاشتاق #تبوك_مثل_جدة

رأيت لوحات بناتي تزين جدران صالتنا وغرفة ابنتي جنى وجود – عمر الكبرى وقتها ١٠ سنوات وجود ٧ سنوات – فعرضت فكرة تبرعهما بهذه اللوحات لعمل مزاد عليها يذهب ريعه لإغاثة المتضررين في تبوك ففرحتا بذلك كثيراً وقمت بتنظيم مزاد تحت هاشتاق #مزاد_اتيليه_جنى_و_جود في وسائل التواصل الاجتماعي وتم عرض الرسمات تحت نفس الهاشتاق في انستجرام – ومازالت هناك. كانت للغالبية “شخاميط” أطفال ولكنها للبنات ولوالديهما لوحات عظيمة قام بالمزايدة عليها عظماء من مجتمعنا النبيل وبيعت اللوحات بمبلغ تجاوز ١٠ ألف ريال حيث تراوحت الأسعار بين ٤٠٠-٢٠٠٠ ريال للوحة. هذا الكرم العظيم من هؤلاء العظماء الثمانية أفرح ابنتيّ بشكل لا يتصوره أحد. واليوم أتذكرهم بكلمة شكر وهم د. عصام مرشد (قام بشراء لوحة التنين)، د. هيثم طيب (لوحة القلعة)، د. معن قطان (لوحة جني في قارورة)، خالد أبو ذياب (لوحة التفاحة)، عبدالرحمن الغامدي (لوحة ليش أخذتي بستي)، معاذ خليفاوي (لوحة الملكة)، عبدالرحمن مظهر (لوحة روبونزل نجد و لوحة الجندي)، هشام الخريجي (لوحة المهرج).

تم تغطية هذه الحملة من بعض الصحف والمجلات تجدون روابطها بنهاية هذه التدوينة القصيرة.

ألزمت نفسي بعدها بشراء عدة الرسم من كنڤاس وألوان بشكل دائم بل وتشجيع أي هواية لهما..

السؤال هو مالذي أعادني لهذا الموضوع اليوم؟

عدت مساء البارحة للبيت مستعداً لقضاء إجازة نهاية أسبوع هادئة فوجدت جنى بغرفتها وهي تضع اللمسات الأخيرة على هذه اللوحة فأحببت مشاركتها معكم لتعرفوا أن اليرقة التي كانت “تشخمط” قبل ٦ سنوات، خرجت من الشرنقة اليوم فنانة!

لوحة التنين لابنتي جنى قبل ٦ سنوات:

لوحة زيتية لابنتي جنى اليوم:

___

للاطلاع على صور اللوحات التي بيعت في #مزاد_اتيليه_جنى_وجود فضلا البحث عن نفس الهاشتاق في انستجرام وتويتر.

التغطيات الصحفية للمزاد:

صحيفة المدينة

صحيفة الحياة

مجلة هي

المشاعر المقتضبة!

قياسي

لا أعلم هل أصبح وقتنا أكثر أهمية أم أن مشاعرنا أصبحت أقل إنسانية..وأكثر جفافاً..

أذكر في قريتي قبل عقود ثلاثة مضت كنّا نفرح بصدق وكما ينبغي للفرح أن يدوم ونحزن بعمق وكما ينبغي للحزن أن يدوم..

أفراحنا كانت تتعلق بمناسبات اجتماعية ليست مختلفة عن مناسبات اليوم.

حفلات الطهور (الخِتان) كانت تستمر ٣-٥ أيام، يسمع بها القاصي والداني ويدعى لها الأقارب والجيران والأصدقاء والقرى المحيطة ويجتمع الناس يرقصون الرقصات الشعبية على قرع الطبول وتذبح الذبائح ويشارك الجيران في الطبخ والولائم ويكشخ (الدّرم: الشخص الذي يتم طهوره) ويتلقى الهدايا المالية ويتزين بها تحت طاقيته..

كذلك حفلات الزواج تبدأ قبل الليلة المحددة بأيام تقوم خلالها سيدة بالمرور على بيوت القرية بيتاً بيتاً تعزم النساء بشكل شخصي باسم صاحبة الدعوة بدون كروت دعوة قائلة (فلانة حابّة حضوركم ليلة كذا وكذا) أما الرجال فلا يحتاجون دعوة، فيشارك الجميع في الفرح ويتم تقديم الهدايا المادية (الرفد) والعينية (الذبائح) ويستمر الفرح حتى بعد تلك الليلة حيث تقوم ذات السيدة التي مرت على البيوت تعزمهم بجولة ثانية توزع خلالها الحلويات الشعبية وقطع القماش كهدايا للمقربين..الجميع يشعر بالفرح ويشارك فيه وينشره..

في الحزن أيضاً يحزن الجميع، بصدق. فإذا مات شخص في القرية، تحزن القرية عن بكرة أبيها فتختفي كل مظاهر الفرح والتسلية فلا نشغل التلفزيون لأسابيع ولا تسمع صوت مذياع يصدح بغناء من بيت أو سيارة..تشعر بألم الحزن في كل زاوية ومظهر الحزن بادياً على كل وجه تقابله ويستمر الجميع في ذكر مآثر المتوفي وذكرياتهم معه/معها لشهور..

مناسباتنا اليوم فرحها كحزنها..مقتضب، لا نفرح بحق ولا نحزن بحق..الفرح والحزن ينبغي أن يأخذا وقتهما ونحن لم يعد لدينا هذا الوقت..أو المشاعر!

نذهب للعزاء لنجلس لدقائق نقوم بعدها نربت على أكتاف أناس اصطفوا لجعل حزننا مقتضباً طيلة الثوان التي تفصل بين أول الصف وآخره..

نذهب لحفلات الزواج فيصطف الناس لنسلم عليهم بنفس الطريقة ونهمهم بنفس الكلمات ونجلس في صمت كجلوسنا بانتظار انتهاء مقاطع القرآن في العزاء..يأتي وقت العشاء فنقوم نتسابق للأكل ثم ما نلبث أن ننسحب خارجين عائدين لبيوتنا..

تباً لمشاعرنا المقتضبة..

الزهرة، بائعة المزهرية

قياسي

قبل أسابيع كانت أختي المُدرّسة بإحدى مدارس البنات بجدة تسأل في جروب العائلة على واتساب إذا فيه أحد فاضي مساء يوم ولعله كان الخميس وعندما سألتها قالت أن إحدى طالباتها النجيبات شاركت بمعرض فني كبير تقيمه الوزارة وأنها سوف يتم تكريمها وقد تفوز لوحتها بجائزة المعرض. في يوم الجمعة وبعد الصلاة نجتمع كالعادة عند الوالدة أطال الله عمرها فسألت أختي عن المعرض الفني وكيف كانت نتيجة المسابقة.

أجابتني بنبرة حزينة وتقول لي الطالبة تقريبا في حالة انهيار من أمس. سألتها لماذا؟ فقالت وصلنا أنه سوف يتم تكريم الطالبة وابلغناها بذلك لكي تحضر فلم تحضر فقط بل أصرت أن يحضر معها كل أفراد أسرتها فقد كادت أن تطير من الفرح فذهبت للمعرض معهم في الصباح وعندما وصلت ومعها أمها وأبيها وإخوتها جلست تنتظر فقرة التكريم التي عادة تكون في آخر فقرات الحفل. عندما بدأت الفقرة تحفزت تنتظر اللحظة التي سوف ينادون فيها على اسمها لتنطلق للمنصة رافعة رأسها ورأس أمها ورأس أبيها.

انتهت فقرة التكريم ولم تسمع اسمها..ذهبت للمشرفات عن الحفل فأخبرنها أن اسمها ليس ضمن القائمة وأن لوحتها لم تفز..كيف؟ لقد وصل خطاب لمدرستي بذلك؟ 

تقول أختي في تلك اللحظة انهارت البنت بكاء مريراً ليس حزنا على عدم الفوز ولكن لانها أحضرت كل أفراد أسرتها ليحتفلوا بها وتفتخر بإنجازها أمامهم وتشعر أنها “تفشلت” وهذا الفشل ظهر جليا في الحزن البادي على وجه أمها اللتي تغالبها الدموع حزنا على ابنتها التي علقت الكثير من الآمال على هذا التكريم وعلى الفوز بجائزة لقاء لوحتها التي وضعت فيها الساعات الطوال من الجهد التي أتعب أناملها الصغيرة وجعل عينيها تكتسيان باللون الأحمر بسبب التركيز الدائم على تفاصيل الكروشيه.

قلت لأختي ما أهمية هذ الموضوع؟ ماهي قصتها؟

قالت: في البداية كنت أبحث عن موهوبات في المدرسة ووضعت إعلاناً داخلياً أبحث فيه عن من تعرف تشتغل كروشيه وكانت ولاء وقتها في الصف الرابع وهي من عائلة المظلوم فيهم فنانين والأم تشتغل تريكو وهو شغل بالخيوط والسنارة بس يختلف عن الكروشيه جائتني وقالت أنا أعرف اشتغل وهي كانت بالكاد تمسك السنارة والخيط وتشتغل سلاسل بس بدون هدف وكل همها تشتغل مثلي وبعدها كانت تستغل حصص الاحتياط وتنزل عندي أعلمها بعض الغرز وكانت تفتح يوتيوب وتتعلم منه في البيت وصارت تشتغل أعمال صغيره زي فستان لعبة أو سلسلة مفاتيح وبعدها أحسست أنها ملت من الأشياء الصغيرة وتريد عمل شي أكبر.

صارت تتعلم غرزاً جديدة من اليوتيوب وأتفاجأ أني لا أعرف بعضها وصرت أنا معلمتها أتعلم منها غرزاً جديدة.

بعد مرور سنة أصبحت ولاء في الصف الخامس وقد أبهرتني بأعمالها ودقتها وأصبحت تنافسني في إبداعها وأصبحت بالنسبة لي صديقة أكثر من كونها طالبة. نتشارك الحديث عن هوايتنا المشتركة، نقضي وقتاً طويلاً دون ملل وفي الفصل الدراسي الثاني من العام الماضي وصل تعميم عن مسابقة للتربية الفنية برعاية شركة كبيرة بجدة لديها اهتمام بالفن التشكيلي – سوف أشير لها هنا باسم (الشركة الراعية) – وكانت مسابقة تضم عدداً كبيراً من المجالات الفنية. في البداية لم اهتم بالمسابقة لأن المجالات كثيرة وآليتها صعبة تناسب بشكل أكبر المرحلة المتوسطة والثانوية وأيضاً لأن التعميم وصل متأخراً للمدرسة ولم يتم تدريبنا نحن المعلمات على فهم هذه المسابقة فلم أعرف كيف نشارك فلم اهتم وبعد أسبوع تقريباً من وصول التعميم طُلب منا حضور اجتماع لمناقشة المسابقة وفعلاً حضرت – ليس لاني قررت المشاركة مع طالباتي لضيق الوقت – ولكن كنت أفكر في السنة القادمة وخاصة أن هذا التعميم له سنتين يُرسل للمدارس ولكن لم نفهمه ولم نعطه أهمية فقررت أن أفهم المسابقة لنحضر أنفسنا لها السنة القادمة وبعد الاجتماع فكرت لم لا أبدأ الآن و ليس مهماً أن يشترك الطالبات من خارج المدرسة أو من داخلها ولكن كان هدفي أن انشر الفكرة ليسهل علي السنة القادمة العمل عليها بسهولة وفعلا وزعت إعلانات في المدرسة وخارجها وقمت بعمل اجتماع لامهات الطالبات للتعريف بالمسابقة والجوائز ونشرت تعريفاً بمجالات المسابقة في الاذاعة المدرسية وفي حصص الفنية وحصص الاحتياط ولم أكن أتوقع تفاعل الطالبات للمسابقة.

جميع طالبات المدرسة من رابع وخامس وسادس قدمن أعمالاً ولكن لم متقنة بجودتها. كان هناك أربع طالبات موهوبات كنت أركز عليهن جلست معهن واخذنا نفكر في فكرة لأن من شروط المسابقة أن تكون فكرة جديدة ومبتكرة.  كل طالبة منهن كانت موهوبة في شي معين، ولاء قالت أنا اشتغل كروشيه بس كيف أسوي فكرة جديدة والطالبة سقطرى كانت موهوبة في رسم الأنمي والشخصيات و الطالبة منى كانت تحب الأشغال اليدوية بالورق ومريم كانت تحب القص ودقيقة جداً في التفاصيل.

استغرقنا أسبوعاً نفكر في أعمال جديدة، سقطرى قامت برسم  زي شعبي قديم على الخشب وقامت بتلوينه بالنسكافيه بدلاً عن الحرق وكانت فكرة التلوين بالنسكافيه هي الفكرة الجديدة في اللوحة وقد عرضت اللوحة من ضمت اللوحات المشاركة في المعرض ولكن لم يذكر اسم الطالبة.

 أما مريم فقد اختارت الجلد وقد صنعت فراشة بخامات مختلفة من الجلد ولكن لوحة مريم استبعدت في بداية التصفيات وكانت حزينة ولكنها عبرت بكلمات جميله يكفيني شرف المشاركة.

منى كانت لوحتها عبارة عن مزهرية من أوراق المناديل وفيها إعادة تدوير للمناديل، كانت لوحة جميلة ولكنها أيضا استبعدت والغريب أننا لا نعلم للآن مصير هذي اللوحة فقد اختفت وقد سألت عنها والجميع يقول لم نرها وما زالت منى للان تبحث عن لوحتها.

أما ولاء فكانت تريد شيئاً مميزاً وفي كل يوم يأتي بفكرة وتقول ‘بس برضو يا أبله أحسها مو جديدة’ وفي النهاية قلت لها لا يوجد وقت وكانت توجد لدينا لوحة لمزهرية جاهزة فقلت لها لماذا لا نحول هذه اللوحة إلى تحفة فنية قالت كيف طلبت منها أن تشتغل وردات كروشية أاحجام مختلفة وبألوان هي تختارها وتنسقها وفعلاً عملت بحماس، كانت تشتغل في كل الأوقات وكنت أراها وقد وضعت الخيط في جيب مريولها ليكون معها في كل وقت والسنارة في يدها تشتغل وهي تسير في الممرات وفي الطابور والفسحة.

الوردات جداً صعبة وتأخذ وقتاً طويلاً جداً وأيضاً أوراق الشجر بأحجام وألوان عدة وبعدها حانت مرحلة التثبيت على اللوحة وهي فترة استغرقت ثلاثة أسابيع تقريباً لإنجازها. كانت ولاء كلما أنجزت مرحلة تقول ‘يا  أبله خايفه ما أفوز’ فأقول لها ‘عادي انتي بتشاركي مو من أجل الفوز، انتي تشاركي من أجل أن تستمتعي وتتعلمي أكثر’ وفعلا تم الانتهاء من اللوحة وتقديمها للمكتب التابع له مدرستنا وبعد شهر تقريباً، أخبرتني المشرفة أنه تم استبعاد لوحة الطالبة مريم واستمرت ثلاث لوحات.

وبعدها اختفت أخبار المسابقة وفي بداية هذي السنة تواصلت مع المشرفة أسأل عن اللوحات وماذا حصل في المسابقة فأخبرتني أنه ربما حدثت مشاكل في المسابقة وتم إلغائها وسألت عن كيفية استرداد لوحاتنا فقالت لا أعلم أين هي الآن فقد سُلمت للجنة (الشركة الراعية) ولا أعلم عنها شيئاً. كانت الطالبات يسألنني عن لوحاتهن ولكن لم تكن لدي إجابات وكنت أتحرج منهن وفي النهاية أخبرتهن بما وصلني من أنه تم الغاء المسابقة. الجميع استسلم ولكن ولاء لم تستسلم فقامت بالبحث عن حسابات (الشركة الراعية) في الانستجرام وتواصلت معهم يومياً ولم يرد عليها أحد وبعد مرور عدة شهور قاموا بالرد عليها أن للوحة قد وصت للتصفيات النهائية!

لم تصدق ولكنها ارسلت لي تبلغني أنها لا تريد الاستمرار في المسابقة وتريد استرداد لوحتها التي صنعتها بحب فلها قيمة عاطفية كبيرة لديها ولم تكن واثقة من أن المسابقة لها نهاية أصلاً. أخبرتها أن تصبر وكون اللوحة وصلت للنهائيات فهذا ممتاز وطلبت منها أن تصبر لنهاية العام ثم تواصلت مع المسئولة عن المسابقة من (الشركة الراعية) وقد أخبرتني أنهم بانتظار توفر معرض لعرض اللوحات وأنه سيتم إرسال خطاب للمدارس الفائزة لحضور حفل تكريم الطالبات وفعلاً بعد فترة تم الإعلان عن المعرض وقد وصل خطاب لمدرستها من إدارة التربية والتعليم – قسم النشاط – بأسماء مجموعة من الطالبات اللاتي تأهلت لوحاتهن للتصفيات النهائية وكان اسم ولاء من ضمن القائمة.

عند سماع ولاء للخبر كادت أن تجن من الفرح واتصلت علي من جوال إحدى المعلمات تخبرني بأنه اليوم في الساعة 11 قبل الظهر سوف يتم تكريمها وتريدني أن أكون حاضرة لأنها تعتبر وصولها ليس مجهودها وحدها بل تقول “وصولي كان بفضل الله ثم بفضلك ودعمك”. للأسف لم استطع الحضور لعدم توفر المواصلات وقتها ولانني بلُغت بالحضور في وقت متأخر، حاولت ولكن لم استطع وكنت على تواصل معها طوال الوقت.

انتهت أختى من سرد قصتها فحزنت بسبب ما تعرضت له البنت من إحباط ولكن بداخلي قلت لعل لوحتها لم تكن جيدة وأنه ربما تم إخبارها خطأً بالتكريم بسبب سوء تخطيط من الجهة المنظمة وتم دعوتها خطأ.

قبل يومين وضعت أختي صورة اللوحة التي شاركت بها هذه الطالبة في المسابقة في جروب العائلة في واتساب فأذهلني جمالها ودقتها وتفاصيلها الفنية مقارنة بالفئة العمرية لطالبة في الابتدائي. سألت عن جوائز تلك المسابقة التي سببت لها كل هذا الألم – والتي كانت ولاء تطمح للفوز بإحداها بالإضافة للتكريم المعنوي – فقالت أختي تراوحت الجوائز بين ٣-٥ آلاف ريال. 

شعرت أن هذه اللوحة الفنية قيمتها أكثر من المبالغ المرصودة كجوائز لتلك المسابقة فقررت أن أطرحها عليكم في مزاد ولكن حتى تكتمل الصورة طلبت من أختي أن تطلب من الطالبة أن تشرح بنفسها قصة هذه اللوحة وأهميتها بالنسبة لها..

أرسلت لي الطالبة ولاء هذه القصة وهي كما ذكرَتها هي ولم أغير فيها إلا إضافة الهمزات وبعد التغييرات التي تتطلبها قواعد النحو – رغم ضعفي في ذلك – فهي للتو قد اجتازت المرحلة الابتدائية ..

أترككم مع ولاء تحكي قصتها/شغفها/انكسارها:

“في يوم من الايام، عندما كنت في الصف الرابع طلبت أختي الكبرى من أمي أن تصنع لها من حياكة الصوف تلبيسة للهاتف المحمول لمادة التربية الفنية وعندما بدأت أمي بالحياكة رأيتها كيف كانت تصنع من الصوف قطعة جميلة ومدهشة وبألوان مختلفة.

 أعجبني كتيراً هذا الفن الذي يسمى فن الكروشيه وجذبني إليه خاصة عندما رأيت أعمالا رائعة للغاية في الانترنت وأشكالا لا أستطيع أن أصف جمالها.

ولأن  ذلك الفن يجعلك تصنعين (شيئا من لا شيء) فقد طلبت بعد أيام من أمي أن تعلمني ذلك الفن فاحضرت كل ما أحتاج إليه من صوف ومقص وسنارة وبدأت المحاولات وشعرت أن هناك موهبة لكنها مدفونة…وكنت أطلب من أخي شراء الصوف بألوان وأشكال مختلفة كلما ذهب إلى السوق…وبعد فترة ومع تكرار المحاولات الصحيحة منها والخاطئة، شعرت بالملل وتركت هذا الفن طيلة الإجازة الصيفية وحتى الصف الخامس وفي نهاية الفصل الدراسي الأول سألت المعلمة في فصلنا عن من يستطيع اتقان هذا الفن فشاركت بهذا النشاط ومن هذه اللحظة بدأ المشوار الفني فأصبحت اتقنه أفضل بكثير من الماضي…وبعد عدة أشهر أعلنت معلمة التربية الفنية عن مسابقة ستقام على مستوى محافظة جدة. لم أفكر بالمشاركة لضيق الوقت وأني لا أحسن تطبيق الورود وأوراق الشجر…ولكن معلمة التربية الفنية كانت من أول من دعمني لذلك وشجعني للمشاركة…فأخبرتني عن فكرة إحضار لوحة مرسومة ونقوم التطبيق عليها بفن الكروشيه…فأحضرت لي ألوان متنوعة من الخيوط للتطبيق بها…وتطبيق ورود متنوعة الأشكال والأحجام وتطبيق أوراق شجر…فبدأت إجازة منتصف العام فأصبت بالحمى ومع ذلك قمت بإنجاز أول وردة جوري كانت جميلة ولكنها صعبة جداً ولكن توكلت على الله …ومع ضيق الوقت بذلت كل جهدي وبمساعدة معلمتي التي أصبحت علاقتي بها أقوى  وشعرت وكأنها أمي انتهينا من اللوحة.

بعد تفكير..انجاز..تعب..بذل مجهود..تنسيق اشتركت بها بموقع المسابقة الخاصة وقمت بتعبئة المعلومات المطلوبة…بتشجيع ومدح مستمر من صديقاتي، معلماتي، أقاربي..واشترك ثلاث من زميلاتي فحصل بيني وبين واحدة من صديقاتي خلاف بسيط لأن لوحتها تشبه فكرة لوحتي ولكن لوحتها كانت باستخدام المنديل. شعرت أني أنانية جداً وأني أخطات كثيراً بحقها فتصالحنا لأننا صديقات كلأخوات..ومن ثم اشتركنا بجميع اللوح في الموقع الخاص وقمنا بتعبئة المعلومات المطلوبة…وبعد فترة بسيطة أخبرتني معلمتي بكل فرحة وسرور بأني قد تجاوزت التصفية الأولى، أنا واثنتان من زميلاتي وبدأت بيننا المنافسة وكل واحدة منا تريد الفوز…وبعدها أيام ثم أسابيع ثم أشهر ولا حس ولا خبر للمسابقة…حاولت التواصل معهم من جميع الجهات …وطلبوا رقم جوال والدي…واتصلوا في ظهر يوم  واخبروني باني تأهلت من بين 50 مشتركة للنهائيات مع وزميلة واحدة من المشاركات من مدرستي.

فرحت فرحاً لا يوصف..ثم توقفت أخبار المسابقة مرة أخرى وبعد فترة طويلة من محاولة معرفة أي خبر عن المسابقة، طلبتني رائدة النشاط إلى غرفتها ونسيت ذلك ودخلت لاتحدث مع معلمة التربية الفنية فطلبتني الرائدة وأخبرتني أن هناك رسالة جوال وصلتها مكتوب بها:

“السلام عليكم ورحمة الله عزيزتي/لديكم الطالبة: ولاء مجدي عادل، فازت في أولمبياد (الشركة الراعية)، نبغى رقم جوالها ضروري”

وعندما رأيت تلك الرسالة فرحت فرحاً لا يوصف بدأت دموع الفرح تتساقط في عيني.. وشعرت كأن الدنيا فتحت لي ولم أصدق ذلك واخبرت كل صديقاتي ومعلماتي فرحوا لي كثيرًا…وكان أولهم معلمتي بهية..شعرت وكأني ولدت قبل قليل من بطن أمي ..لم أصدق الخبر من الفرح والسرور..وطلبت من معلمتي رقم لموجهة المسابقة فأعطتني إياه واتصلت وأخبرتني أني فائزة…وأخبرتني أن أحضر معرض المسابقة وكان من المحزن أن معلمتي/ملهمتي لن تذهب للمعرض..حزنت كثيرًا وشعرت أن الفرحة لن تكتمل من دونها..أصررت أن يذهب معي كل أفراد أسرتي وعندما وصلت تفاءلت كثيرًا..وتفاءلت أكثر عندما رأيت لوحتي في المعرض…

بدأ المعرض بإعلان الفائزين وكنت انتظر اسمي بكل لهفة ولكن للأسف تفاجئت بعدم وجود اسمي ..في تلك اللحظة لم أتمالك أعصابي فبدأت بالبكاء ولم استطع التحدث.. اتصلت معلمتي علي ولا أعلم كيف أرد أو من أين أبدأ..بدأت أسأل المسئولات وكل واحدة لا تعلم عن شي..تجمعوا حولي لتطييب خاطري ولكن ذلك لم يكن كافيا لخيبة الأمل التي كنت فيها.. وسألت من أرسل رسالة الجوال بأني فائزة ولم يكن جوابهم مقنعاً أبداً وحتى هذه اللحظة وأنا اكتب قصتي ودموع الحزن في عيوني..وأكثر شيء أحزنني هو أنني خيبت أمل أسرتي التي حضرت معي بسبب إصراري وتلك النظرة الحزينة على وجه أمي..

كرهت كل لحظة كنت انجز فيها للمسابقة وكلما تذكرت كل لحظة من قصتي أشعر بالحسرة والحزن لا أعلم لماذا تم استبعادي بعد اختياري، لا أعلم ما هو السبب..هل لوحتي سيئة؟ وبعد كل هذه الأحداث، أنا الآن أروي ما حدث ممتنة لكم ولتعاطفكم معي لأني بحاجة إلى ذلك..لا أعلم لمن أشكوا لأن الشكوى لله وحده”

هذي قصة ولاء مع هذه اللوحة الفنية الفريدة..اللوحة التي أتعبتها في كل مراحلها حتى عندما أشيع أنها ستفوز بجائزة مالية مجزية..

هذه اللوحة التي بسببها انكسرت ولاء..الطفلة البريئة الموهوبة..

لا أدري هل تم استبعادها بترتيب أم أن في الموضوع سوء تواصل أو سوء فهم..ما حدث قد حدث ولا يمكن تعويضها عن تلك اللحظة الاستثنائية التي انتظرتها بشوق مع كل فرد من أفراد أسرتها..

إذا كُنتُم تقدرون الفن والجهد فشاركوا معي بنشر قصة ولاء لنشيد بجهدها وإبداعها..

سوف أطرح هذه اللوحة بالمزاد هنا وتتم المزايدة عليها في خانة التعليقات على التدوينة..أتمنى أن تكون المزايدة جادة وحقيقية..عندما ينتهي المزاد في تمام الساعة ٩ من مساء الجمعة سوف أعطي جوال والد ولاء لصاحب/صاحبة أعلى رقم في المزايدة ليتواصل معهم مباشرة لاستلام اللوحة وتسليمهم الثمن مباشرة.

فضلا إذا لم ترغبوا بالمزايدة، قوموا بنشر القصة لتصل لأكبر عدد ممكن تحت هاشتاق #مزاد_مزهرية_الطالبة_ولاء، سوف أبدأ المزاد بنفسي بمبلغ ٢٥٠٠ ريال..

هنا صور للوحة مأخوذة بالجوال ومقاسها ٦٥ سم في ٥٥سم.

   

   

طفل في الصباح، رجل في المساء!

قياسي

في القرى، نتوق لنصبح رجالاً بمجرد أن نبدأ بالمشي. الرجولة هي طموح كل طفل، فإذا غاب أبوك فأنت رجل البيت، أنت الذي يعتمد عليه..

صبيحة يوم عندما ذهبت للدكان الوحيد بالقرية – دكان العم شعيب رحمه الله – لأشتري بُسْكت غوّار قال لي (أشاك تذري (تبذر الحبوب) معايه اليوم، أهب لك ٥ ريال في امساعة – الساعة) فلمعت عيناي وقلت له متى؟ قال بعد شوية تمرني الحراثة. أخذت البسكويت وقلت له: مروني البيت اذا جاءت الحراثة.

كان هذا بداية موسم حرث الأرض بعد أسابيع من هطول الامطار الموسمية وزراعة الذرة الرفيعة هي السائد في منطقتنا حيث نأكل منها ونبيع. والزراعة في قريتي كانت تتم بناء على الموسم الذي يتحدد بمعرفة النجوم وكان عمي علي – توفي رمضان الماضي رحمه الله- أحد الخبراء القلائل في معرفة النجوم وكانت القرية تنتظر حتى تراه يبدأ بحرث أرضه فيبدأون بحرث أراضيهم.

عدت للبيت سريعاً لاستبدل بنطلون الرياضة الذي كنت ألبسه ولبست حوك (إزار) وحزام لكي أصنع (حذلة) والحذلة هي صنع تجويف صغير في الإزار أسفل السرة (وأعتقد أن الكلمة عربية فصيحة) لكي يوضع بها حبوب الذرة الرفيعة. هذا من الأهمية بمكان حيث يتم ملئ (الحذلة) بالذرة الرفيقة ومنها تغرف بيديك وتبذر.

فيما سبق – أي قبل عصر الحراثات – كانت عملية بذر الأرض تتم باستخدام الثيران وهي عملية مرهقة جداً تستغرق أياما كثيرة حيث يتم حرث الأرض (تِلماً تِلما) أي خطّاً خطا. مازال المنظر عالقا بذاكرتي حيث كنت اصحب أبي رحمه الله وهو يحرث أرضنا على ثورين وإذا ارتفعت الشمس تجاه منتصف السماء تلحق بنا أمي ومعاه (الزوادة) أي الغداء.

لم يمض وقت طويل حتى سمعت صوت الحراثة خارج حوش بيتنا فخرجت وركبت مع شخصين آخرين بالاضافة لسائق الحراثة والعم شعيب قال لهم أنه سوف يلحق بنا على حماره.

انطلقت بنا الحراثة للأرض التي سوف يتم حرثها وبذر الذرة الرفيعة بها وماهي إلا دقائق قليلة حتى وصل العم شعيب يحمل معه الحب الذي سوف نبذر الأرض منه – وجرت العادة ان يتم انتخاب افضل نوعية حبوب من كل موسم وتحفظ ليتم استخدامها لزراعة الموسم القادم حفاظا على جودة البدور – وقام كل واحد منا بملئ (حذلته) بالحبوب واتخذنا مجالسنا على عدة الحراثة وهي مكان غير مريح رغم الكراتين التي وضعناها تحتنا لتحمي مؤخراتنا من الحديد.

انطلقت الحراثة لبداية الحقل ويتم إنزال المحراث للأرض فينغرس في الأرض ثم تنطلق تسحبنا خلفها ونحن نغرف الحبوب كل من حذلته ونبدأ بإفلاس الحبوب في (الجَلَب) وهو فتحة حديدية في رأس المحراث ينزل من خلالها الذرة لباطن الأرض. المحراث به ٥-٦ رؤوس عادة وعندما نصل لنهاية الحقل يتم رفع المحراث – ونحن جلوس فوقه – والالتفاف للعودة بنفس الاتجاه. عملية رفع المحراث وإنزاله مؤلمة لنا ونحن جلوس على كراتين واهية موضوعة على محراث حديدي. ناهيك عن ألم المحراث، التنفس والنظر هو معاناة أخرى حيث انه بمجرد ان يتم غرس المحراث والانطلاق فإن التراب القادم من كفرات الحراثة الكبيرة تستقبله ظهورنا ومؤخرات رؤوسنا والغبار الناتج من حركة المحراث تستقبله وجوهنا. الزميلان اللذان كانا بجواري محترفان فقد قام كل منهما بلف شماغ حول رأسه وتلثم به معطيا أنفه وفمه أما أنا فلم أفكر بهذا ولهذا استقبل وجهي كل الغبار.

استمر عملنا عدة ساعات حيث انهينا الحقل الاول واسترحنا قليلا لشرب الماء ثم عدنا مرة أخرى لاستقبال بقية الحقول. تشتد الشمس وحرارة الشمس مع حرارة الحراثة وحديد المحراث تلسعنا من كل جانب..

انتهينا قرب صلاة العصر وكان العم شعيب قد عاد قبل انتهائنا لكي يعرف الوقت الذي استغرقناه حيث ان حسابنا وحساب صاحب الحراثة بالساعة.

انطلق قبلنا على حماره وطلب منا اللحاق به للدكان لكي يحاسبنا.

كنت اتحرق شوقاً لاستلام أول مقابل نقدي لعمل أقوم به. سألت صاحب الحراثة كم ساعة؟ فقال ٧ ساعات، ففرحت فقد كنت وقتها في الصف الرابع تقريبا واعرف كيف احسب ٧x٥ وتخيلت ٣٥ ريال – مبلغ فخم!

وصلنا للدكان وكان من ينظر لي يموت ضحكا حيث أن وجهي ورأسي تغطي تضاريسه طبقة تراب كثيفة لا يُرى منها سوى عينان تلمعان وتدمعان بسبب الغبار الذي انتهك حرمتهما!

ناداني العم شعيب لداخل الدكان ودخلت مادا يدي لاستلام المبلغ المعلوم ٣٥ ريال فوجدته واقفا يسألني (ماهو تشا؟) فقلت ٣٥ ريال، قال لك عندي ٣٥ ريال – ماهو تشا بها؟ قلت أشاها (أريدها)!

قال زلط (أي فلوس/نقد) ماشي، هذا الدكان قدامك خذ اللي تبغاه بخمسة وثلاثين ريال.

للحظة حقدت عليه وغضبت ولكن في الأخير أيقنت أنه لا مفر. قمت باختيار بضائع للبيت فاشتريت زيت أبو بنت وسنكر وشاهي وملح وسمن (كنا نسميه خشبي أي نباتي) وصلصة وزبدة البرميل ولم أنس بسكويت غوار والميزان للإفطار الصباحي.

حملت الأغراض وعدت لبيتنا ماشياً نافخاً صدري منتشياً، لقد كسبت من عملي وصرت أصرف على البيت. عدت وأعطيت هذه الأغراض لأمي وأنا أشعر بفخر استثنائي..

ذلك اليوم، غادرت بيتنا طفلاً وعدت له رجلاً..

 

IMG_6395-0.JPG
الصورة للسيد ناصر فلوس @naser144_floos وهي من موسم هذا العام في جيزان وقد أثارتني وذكرتني بهذه القصة التي قررت مشاركتها معكم.

ثروة في لحية أبي!

قياسي

في عام ٢٠٠٥م اشتغلت فترة بالبنك الأهلي بجدة مسوقاً لمنتجات البنك المختلفة الموجهة للأفراد وهذا يشمل كافة أنواع التمويل الشخصي وبطاقات الائتمان وبرامج الحسابات الجارية.

لم أكن على معرفةٍ كبيرةٍ بتفاصيل المنتجات البنكية المختلفة قبل ذلك فكانت تجربةً مميزةً بالنسبة لي لمعرفة طريقة هيكلة/تطوير هذه المنتجات.

كان من ضمن منتجات التمويل الشخصي منتجاً يسمى (التمويل المضمون) وفكرته بسيطة في كون المقترض يجب أن يضمن قرضه بأصل (Collateral) مقبول لدى البنك كمحفظة أسهم أو وديعة الخ. هذا الأصل يجب أن يساوي (بعد تقدير مخاطر كل أصل) قيمة التمويل على الأقل. فإذا كان لديك فرضاً وديعةً ماليةً قيمتها ٥٠٠ ألف فقد تحصل على تمويلٍ بقيمة ٥٠٠ ألف فإذا عجزت عن تسديد الأقساط قام البنك باستفتاء ما تبقى له من الأصل الضامن.

عادت بي الذاكرة للوراء – أيام طفولتي في القرية – فتذكرت كيف أن القرض المضمون منتج قديم جداً. احتاج أبي للنقد يوماً فذهب لرجل في القرية ليستلف منه مبلغاً لم يكن كبيرا كحجم التمويل البنكي ولكنه كان بضع مئات وكان وقتها قادراً على شراء قطيع من ٦ عنزات بأسعار ذلك الوقت. فلما استلم المبلغ، رفع يده إلى لحيته ونتف منها شعرة وناولها للرجل ثم انصرفنا وأنا عاجز عن فهم ما حدث..

بعد بضعة أشهر، ذهب أبي لذات الرجل فأعاد له المبلغ الذي استلفه منه فما كان من الرجل إلى أن أتى بتلك الشعرة وناولها أبي الذي قام بفتح حزامه وخبأها به!

لم أزل مشدوهاً بتفاصيل هذه القصة التي فسرت لي لم كان أبي – رحمه الله – ينهاني في صغري عندنا كنت أمسك بلحيته أثناء لعبي معه ويغضب إذا نتج عن ذلك سقوط شعرة!

فهل أعجب من قيام أبي بإعطاء الرجل شعرة كضمان أم أعجب من احتفاظ الرجل بها وإعادتها لأبي بعد تسديد الدين!

لقد شاهدت أمامي أول عملية (تمويل مضمون) تمت وكان الأصل الضامن (collateral) هو شعرة من لحية أبي الكثة.

حين تأملت هذه القصة العجيبة، جالت في رأسي العديد من الأسئلة، مالذي جعل هذا الرجل يقبل شعرة كضمان مقابل مبلغ ليس بالقليل قياساً على مستوى المعيشة آنذاك؟ قيمتها الفعلية لا يساوي شيئاً فلابد أن لها قيمةً معنوية!

لقد أدركت أن قيمة الشعرة كانت مرتبطة بقوة ومصداقية كلمة/التزام صاحبها! وهذا بدوره يؤكد مدى أهمية (الكلمة/السمعة) في ذلك المجتمع الصغير المغلق حيث كانت سمعة الشخص هي قيمته الفعلية!

عدت فتأملت واقعنا المعاصر حيث أنه ومع الضمانات المادية (سواء شيكات أو كمبيالات أو غيرها) فإننا نسمع قصصاً عجيبة عن تملص الكثير من كلمتهم/التزامهم حتى بين الأقارب والأرحام فمالذي حدث لنا؟

مع انتشار المدنية وتوسع المجتمعات تحول الشخص من (عَلَم) إلى (نَكِرَة)..شخص من الناس، واحد من مئات الألوف أو الملايين!

مع انتشار التمدّن، أصبح الشخص قادراً على العيش ضمن مجتمعات أخرى بينما كان قديماً لا يستطيع العيش إلا ضمن قبيلته/عشيرته/مساحته ومنها يستمد قوته وعليه أن لا يقوم بما يؤثر عليهم سلباً فكان يعيش بناءاً على التزام أدبي/أخلاقي (Code of conduct)

لو قصصت على شاب اليوم كيف أن أبي كان يستلف المال بضمان شعرة من لحيته لضحك من سذاجتي ومن مثالية أبي ولقال لي سلفني بضعة ألوف وتعال معي للحلاق اجمع كل شعري، لحية ورأساً!

لقد علمني أبي – رحمه الله – أن شعرة لحيته هي كلمته وأن احترام الكلمة هو القيمة الحقيقة للإنسان!

أعلم أنني لن أستطيع الحصول على تمويل مضمون من أي بنك اليوم مقابل منحهم شعرة من ذقني كضمان لذلك لكنني فخور بأنني عشت يوماً في مجتمع كانت فيه شعرة من دقن أبي تعادل ثروة، عشت في زمن كنا نساوي فيه ما نقول من كلمات، عشت في زمن كنا فيه أناساً بحق!

رحم الله أبي الذي مات محتفظاً بشعرة لحيته في حزامه..لقد كانت ثروة!

بترول جازان ينمو على الشجر

قياسي

يوماً بعد يوم نكتشف سوياً المقومات الاقتصادية لمنطقة #جازان التي تجاهلتها خطط التنمية لعقود مضت. موجة الاكتفاء الذاتي من القمح ألقت بنفسها على رمال منطقة القصيم فتحولت لدوائر خضراء كل هدفها بيع الغلة لصوامع الغلال بسعر يفوق سعره عالميا وأدوات إنتاجه ممولة من قروض الدولة حتى اذا ما نضبت مياهنا الجوفية، اعترفنا اننا هدف الاكتفاء الذاتي من القمح لم يكن هدفا منطقيا في بيئة لا أنهار فيها ولا أمطار دائمة.

تطوير البنى التحتية بميزانياته المليارية تركز في مناطق خط الثراء الذي يقطع مساحة المملكة من شرقها لغربها، الشرقية-الوسطى-الغربية.

في هذه الأثناء، ظهرت منطقة جازان على خارطة الأحداث محلياً وإقليميا وعالميا بوباء حمى الوادي المتصدع الذي حصد من أرواح أبناءها المئات في أكثر الروايات تحفظاً وتحولت معه المنطقة الى محجر صحي كبير وكانت توصيات خبراء الصحة وقتها تتركز على منع تنقل الحيوانات الحية لكي لا ينتشر. وان كان منطقيا، هذا القرار كان عبئاً اقتصاديا إضافيا على المنطقة التي ‘بها ما يكفيها’. منع تنقل المواشي قتل الاسواق الشعبية التي تحتضنها حواضر المنطقة والتي كانت من اهم المحركات الاقتصادية.

بعد وباء حمى الوادي المتصدع، انتبهت الدولة للمنطقة ورأت أنه آن الأوان لإعطائها بعض الاهتمام وان كان شكليا في البداية بتعيين أمير من الأسرة الحاكمة كأمير للمنطقة ولكن هذا صاحبه ضخ ميزانيات تركزت على تحسين البنية التحتية والتي كان أهمها الطرق والمواصلات التي هي شريان المنطقة التي تتألف من مئات القرى المتناثرة حول حواضرها المعروفة كمدينة جيزان وأحد المسارحة وصبيا وأبي عريش. شبكة الطرق التي تعثرت كثيرا في السابق مالبتث ان شملت اغلب القرى.

خلال هذه الفترة انتبه القحاطين من سكان منطقة عسير وتوجهوا لمنطقة جازان كمستثمرين يسيطرون اليوم على كثير من الخدمات كورش الصيانة وورش الحدادة ومواد البناء ثم انتعش العقار وبدأت المخططات تلو المخططات تعتمد وتطور وتباع.

على هامش هذا الحراك الاقتصادي، بدأ أثرياء المنطقة بزراعة المانجو في مزارعهم في الريان وأبي عريش كهواية مالبثت ان تحولت لصناعة مهمة انتبه لها الكثير فانتشرت مزارع المانجو في جميع سهول المنطقة حيث يتم زراعة وإنتاج افضل أنواع المانجو ويقام لذلك مهرجان سنوي كبير تحتفل به المنطقة وان كان تسويقه داخليا دون المأمول ويعتمد على مبادرات فردية في الأغلب (انظر تدوينتي ملوك المنجا..الآن في تويتر

سيطر المانجو على سهول المنطقة بينما جبالها بقيت مرتعا لمزارع القات الذي يعتبر بحق محرقة للناتج المحلي للمنطقة ومدمرا للإنتاجية. القات التي يتم زراعته في جبال فيفا والداير كان جله يستهلك في المناطق الجبلية حيث كان القات اليمني يجد طريقه بسهولة لسهول المنطقة بل لجميع مناطق المملكة حيث ان تجارة تهريبه رائجة بسبب عوائدها المالية المجزية وبسبب غزارة الانتاج حيث يتم قطف وريقات الشجرة مرات عديدة خلال السنة بعكس أشجار الفاكهة الموسمية.

20131206-051250 pm.jpg

سكان الجبال يشتكون من أن جبالهم خالية من المشاريع الاقتصادية والبنية التحتية ولا سيما الطرق الجبلية مازالت دون تلك في جبال عسير ومكة المكرمة. مع بدء توسع مشاريع البنية التحتية في جبال المنطقة وقيام الدولة بمنح حوافز مادية لتشجيع مزارعي القات للتخلص من أشجارهم واستبدالها بشتلات أشجار البن الخولاني المشهور بجودته حيث يزرع في منطقة خولان باليمن. بدأ المزارعون بين مقتنع وبين متردد في تصديق التوجه الحكومي والجدوى الاقتصادية من زراعة البن مقارنة بزراعة القات وشيئا فشيئا بدأت شتلات البن تنتشر فوق سفوح جبال المنطقة حتى تجاوزت ٧٠ ألف شجرة يملكها ٦٠٠ مزارع من مزارعي المنطقة يتجاوز إنتاجها السنوي ٥٠٠ طن.

هذا العام تمت إقامة أول مهرجان لبن جازان في جبال منطقة الدائر.

20131206-051435 pm.jpg

20131206-051446 pm.jpg

20131206-051453 pm.jpg

20131206-051501 pm.jpg

20131206-051508 pm.jpg

20131206-051515 pm.jpg

مرة أخرى، التسويق في مجمله يرتكز على الجانب الرسمي ولم يتم “مأسسته” ونقله لجميع مناطق المملكة لتعظيم الفائدة الاقتصادية مما ينتج عنه تشجيع المزارعين في التوسع في زراعة البن وزارعة المانجو في منطقة زراعية بطبيعتها تهطل على سفوحها الأمطار بشكل شبه دائم.

المبادرات الفردية ومنها مبادرة متجر مانجو جازان للمبادر عبدالرحمن الساحلي مازالت هي الشموع المضيئة في المنطقة التي لم تحظ بعد بالدعم الحكومي النوعي.

البارحة، جمعني عشاء بالأخ عبدالرحمن الساحلي الذي فاجأني بأنه قد قام بتصميم عبوة أنيقة كهدايا تحتوي على بن جازان.

20131206-051753 pm.jpg

20131206-051739 pm.jpg

انشروا هذه المبادرات الفردية وشجعوها وأوصلوها لمسئولي منطقة جازان ووزارة الزراعة ووزارة التجارة لعل وعسى..ألا ترون بترولنا ينمو على الشجر؟

ان تحتفل باليوم الوطني بداخل أحد أحلامك – البيلسان

قياسي

في نهاية عام ٢٠٠٦ اتصل بي أخي وصديقي إبراهيم عباس يطلب أن أكون ضمن فريق صغير يساعده ليقدم على مشروع الحملة الإعلانية لمدينة الملك عبدالله الاقتصادية بصفة استشارية.

كانت وقتها المدينة الاقتصادية ملئ السمع والبصر فقمنا بوضع تصور للحملة الإعلانية فاز بثقة الفريق الإداري والتسويقي للمدينة وقتها.

في بداية ٢٠٠٧م وصل طلب لإعداد هوية لأول مشاريع المدينة السكنية ومنها اختيار اسم وشعار ووضع كل تفاصيل هوية هذه المنطقة التي تتميز بأفضل موقع داخل المدينة على الرمال البيضاء لشاطئ تترامى عليه مياه تركوازية صافية!

أمضى إبراهيم عباس ليالي يعتصر عقله المبدع ليضع خيارات لاسم أول حي بالمدينة الاقتصادية وكان من ضمنها اسم عندما قرأناه لمع وميض وأحسسنا أنه هذا هو الاسم!

البيلسان! تيمنا بشجرة عجيبة منظرها جميل وزهورها جميلة وفوائدها جمة ولها استخدامات علاجية الخ (يمكنكم البحث عن الشجرة في جوجل)

عندما كتبناه باللغة الانجليزية بداية albailasan ثم خطرت لي فكرة كون المنطقة بها قنوات مائية تبدوا كالخليج فاقترحت ان نكتب الاسم Bay La Sun وعندما تم تقديم الاقتراحات المختلفة لفريق التسويق بالمدينة وقع اختيارهم على البيلسان!

وقعنا جميعا في حب هذا الاسم وانظلقنا نصمم شعاره وتفاصيل الهوية.

20130920-080029 pm.jpg

الصورة أعلاه بها شعار البيلسان في بدايته وألوان هوية أرقى أحياء المدينة.

جمح بنا الخيال مع فريق التسويق بمدينة الملك عبدالله الاقتصادية آنذاك خالد طاش ومصعب هاشم ومحمد بصراوي وعبدالعزيز الترك وصرنا نتخيل الحياة في هذا الحي الراقي، قنوات مائية، تاكسي مائي وكافيهات ومطاعم على الشاطئ وإذاعة راديو محلية و و و وكيف أن الحياة على البحر أحلى! وكان هذا هو سلوقان حي البيلسان (الحياة على البحر أحلى)

20130920-080751 pm.jpg

20130920-080806 pm.jpg

بدأنا نضع التخيل للرسوم الإنشائية لأبراج الشاطئ وكيف ستكون

20130920-081048 pm.jpg

20130920-081057 pm.jpg

ثم جاءت الأزمة الاقتصادية في نهاية ٢٠٠٧ وبداية ٢٠٠٨ وعصفت بكثير من الأحلام والخطط وتأثرت المدينة بتغيير خطط الاستثمار لكثير من المستثمرين وخبى صوت المدينة ودارت الأيام وهذا العام اقترحت على ابراهيم عباس ان نقضي مع عائلتينا نهاية الأسبوع واليوم الوطني بعيدا عن زحام مدينة جدة وكان ان اغريته ان نذهب إلى حيث حلمنا بحياة جديدة، حياة أحلى..الحياة على البحر أحلى!

نحن الان بداخل حي البيلسان نحتسى أكواب الشاي بعد العشاء في أحد مطاعم أبراج الشاطئ التي تسترخي بكسل على شاطئ رائع..

عجيب ان تحلم وتتخيل تفاصيل الحلم ثم تعيش تلك التفاصيل كما تخيلتها يوما..لحظة وصفها عجيب!

20130920-081750 pm.jpg

20130920-081804 pm.jpg

20130920-081811 pm.jpg

20130920-081831 pm.jpg

وأخيرا وجدت هذه الصابونة بداخل حمام الفيلا..ونظرت بابتسامة عمرها ٦ سنوات!

20130920-081959 pm.jpg

أعلم أنه يوجد الكثير من المتشائمين بخصوص مستقبل المدن الاقتصادية ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية على وجه الخصوص وأتمنى أن تصل تدوينتي هذه لهم، هذا حلم عشته انا شخصيا..والآن اعيش به..

انا أتكلم عن حي فقط ولا أتكلم عن بقية المشاريع التي تحققت في المدينة ومنها مصانع عالمية بدأت الانتاج ومدرسة وميناء على وشك استقبال أول سفينة هذا العام!

سوف تكون الأيام القادمة التي نقضيها بداخل مدينة الملك عبدالله الاقتصادية مميزة بالنسبة لي انا وإبراهيم عباس فهي مليئة بذكريات وأحلام نرى الكثير منها يتحقق!

ملك (مانجو جازان) يغرّد في (سرب)!

قياسي

قبل عام كتبت تدوينة (ملوك المنجا، الآن في تويتر) لخصت فيها بداية مشروع (مانجو جازان) وكنت أعتقد أن المشروع انتهى بانتهاء موسم المانجو الشهير في منطقة جازان وكم جانبني الصواب في اعتقادي هذا!

في أحد الأيام أرسل لي الصديق المبدع في تصميم الهوية للعلامات التجارية عبدالعزيز الجفن رسالة على الخاص يطلب مني تزويده بـ ٣ أشياء ترمز لمنطقة جازان ففعلت بدون معرفة السبب.

بعدها بفترة أرسل لي عبدالرحمن الساحلي صاحب موقع مانجو جازان إيميلاً يطلب فيه ملاحظاتي على تصميم هوية المنتج وكم كانت المفاجأة فقد كان التصميم باستخدام الأشياء التي زودت بها المبدع عبدالعزيز الجفن .

بعدها اجتمعت مع عبدالرحمن في جدة وتناقشنا في
كيفية إعادة افتتاح الموقع بالهوية الجديدة وخطط تسويقه بل تسويق المنطقة ككل.

حل الموسم وانتشرت رائحة مانجو جازان المميزة في المزارع المتناثرة في الريان وأبي عريش وبيش وأعلن عبدالرحمن انطلاق الموقع ودشنه بحملة تسويقية باستخدام الشبكات الاجتماعية وخاصة تويتر وسرعان ما انتقل الخبر للصحف الإلكترونية منها والتقليدية لتكتب عن هذه التجربة الاحترافية المتميزة وكانت صحيفة الاقتصادية هي أول من كتب في موضوعين متلاحقين الأول بعنوان (مانجو جازان متاح إلكترونيا) ثم تلته بموضوع (شاب يسوق مانجو جازان إلكترونيا) ثم تلتها صحف عدة منها صحيفة سبق الإلكترونية بموضوع (مانجو جازان، أول مشروع من تغريدة) وبعدها انتشر خبره في كل مكان فكتب عنه العزيز خالد الناصر في صحيفة اليوم (مذاق أهل جازان) ومجرد البحث عن كلمة مانجو جازان في جوجل سوف تجد مقدار انتشار خبره!

بدأت من جهتي في تسويق الموقع والمشروع على تويتر دعما لهذا النحيل الجازاني – وخاصة بعدما أهدى لي ٦ كراتين من أول قطفة في الموسم – وبعد أيام رأيت مقطعاً له على يوتيوب يقدم مشروعه المبتكر في مسابقة (سرب) شبكة المستثمرين الشباب التي تدعم المشاريع المبتكرة وتسوقها للمستثمرين!

بعد مشاهدتي لذلك المقطع، أيقنت أن هذا النحيل سوف يبلغ بمشروعه النهائيات بلا شك، فهمته عالية وتصميمه كبير واحترافيته كانت واضحة منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه هذا المشروع بناء على تغريدة شخص لا يعرفه ولم يقابله في حياته فاستثمر في تصميم موقع ووقع اتفاقية شراء كميات كبيرة من شركة مدرجة في سوق الاسهم، لديه جرأة عجيبة!

انشغلت ولم أتابع ما يجري في تصفيات مسابقة (سرب) حتى رأيت تغريدة في احد الأيام تظهر ٧ مشاريع تأهلت للتصفيات النهائية فباركت له هذا الإنجاز.

قبل موعد الحفل النهائي ارسل لي يستشيرني في عرضه الذي سوف يقدمه وكان عرضاً مميزاً بحق وفي نفس الوقت اخبرني أن لجنة المسابقة طلبت من الحضور لتجربة تقديم العرض في يوم لن يستطيع الحضور فيه نظراً لارتباطه بمناسبة في جازان وقال بنبرة حزن، قالوا إذا لم احضر سوف يتم استبعاد المشروع من التصفية النهائية ثم أردف، لعلها خيرها فقلت لك اعمل على عرضك التقديمي ونقحه ولعل الله يسهل الأمور.

بعدها بيومين اخبرني بأن اللجنة حددت له موعدا آخر وانه عاد لحلبة السياق بعد أن كاد أن يُستبْعد منها!

موعد التقديم النهائي واختيار الفائزين تم الإعلان عنه وتم تحديده في صباح الأحد الموافق ٢٧ مايو ٢٠١٣ بقاعة ليلتي برعاية أمير منطقة مكة المكرمة

اتصل بي مستئذناً بوضع صورتي في إحدى الشرائح كموجه للمشروع ضمن فريق العمل فقلت له حبا وكرامة ثم استشارني بعدها في توزيع عينات من مانجو جازان على الحضور بعد أن قرأ تغريدة عن أهمية ذلك الخبير راكان العيدي الذي يقود فريق إنديڤور في السعودية فأثنيت على المبادرة وشجعته

20130529-122734 AM.jpg

بعدها وصلتني دعوة لحضور منتدى الحوار الاجتماعي برعاية وزير العمل في نفس اليوم ونفس الموعد ولم اكن في الواقع قادرا على حضور أي من المناسبتين بسبب ارتباطي باجتماعات ذلك اليوم وبقيت محتارا هل أستطيع الحضور أم لا

في صباح يوم الأحد استيقظت وقررت الحضور لمقابلة عبدالرحمن وتشجيعه ودعمه معنويا ثم الانصراف لحضور الاجتماعات وهذا ما قمت به فعلا

20130529-121907 AM.jpg
اضطررت للمغادرة ولم احضر العروض التي قدمها المتسابقون السبعة ولكني تابعت الأمر على هاشتاق #جائزة_سرب في تويتر

20130529-122655 AM.jpg
تم اختيار أفضل ٣ مشاريع وكان مشروع مانجو جازان أحدها وفاز بالمركز الثاني وجائزة قدرها ١٢٥ ألف ريال وفي الوقت الذي كان فيه عبدالرحمن واقفا يتسلم الجائزة من الامير مشعل بن ماجد محافظ جدة كان موقع المشروع على الإنترنت قد شحن أكثر من ٧٠٠٠ كرتون منذ بداية موسم مانجو جازان أي ما يزيد على ثلاثة أطنان ونصف من أفخر ما تجود به طبيعة جازان ومزارعها!

20130529-123636 AM.jpg

20130529-123645 AM.jpg

20130529-123653 AM.jpg

تخيل أن يكون رزقهم فعلاً (من كيسك)!

قياسي

في أواخر شهر إبريل، اتصل بي خالد خلاوي ليخبرني بأنه رشحني لأكون متحدثاً في لقاء #تروشيه القادم وكان يريد الحصول على موافقتي. ماهي #تروشيه؟ سألت وكنت أعرف القليل عنهم فقال (ناس تسوي شغلات بأكياس التسوق وشكلهم كويسين)!

بعدها اكتشفت أنه هو أيضا قد تم ترشيحه بواسطة ياسر بكر.

المهم، جهزت عرضاً عن المسئولية الاجتماعية للأفراد وذهبت للموقع المحدد. بعد انتهاء العرض أعجبني إصرار فريق العمل على إحداث فرق في البيئة من جهة وفي توظيف سيدات لا يستطعن العمل بالصورة الاعتيادية من جهة أخرى – خاصة بعد مشاهدتي لهذا الفيديو الذي يعرف بفكرة #تروشيه http://www.youtube.com/watch?v=bvaZH29zIa8

قررت أن أعرف المزيد عنهم فنسقت لكي أزور معملهم وأفهم مالداعي لفكرتهم وكيف نشأت ومن خلفها وماهدفها الخ

قمت البارحة (مساء الثلاثاء) بزيارة مقر فريق #تروشيه. العنوان كان فيلا سكنية، بعد أن دخلت، لفت نظري (حبل الغسيل) الطويل فذهبت لالتقاط صورة له..Image

عندما التقطت الصورة، لاحظت أن هناك المزيد من حبال الغسيل!

Image

قادني حارس الفيلا إلى قبو سفلي للفيلا فبدأت أخاف من الأمر..

عندما دخلت قابلتني الأخوات ديانا وبدور وأبرار..

رحبن بي ثمن جِلن بي في أركان القبو لأرى عمليه التخزين والإنتاج..

هناك غرفة مخصصة لأكياس التسوق التي يتم تجميعها وذلك تمهيداً لغسلها ثم تنشيفها ونشرها على حبال الغسيل المحدودة في جانب من حوش الفيلا التي فيما بعد عرفت أن صاحبتها ريم بخيت تدعم فكرة #تروشيه بشكل كبير وأعطتهن المكان حتى يجدن موقعاً أكبر.

Image

بعدها ذهبنا للصالة الكبيرة المفتوحة التي كان بها أكياس كبيرة مليئة بأكياس التسوق التي تم غسلها وتنشيفها وتعقيمها وهي جاهزة لإرسالها لفريق العاملات من السيدات الاتي يسكن في بعض الأربطة والأحياء الفقيرة في جدة لكي يتم قصها لأشرطة طويلة يتم فيما بعد لفها على شكل كرة.

Image

أكياس التسوق بعد أن يتم تقطيعها على شكل شرائط ولفها على هيئة كرات تصبح بعدها جاهزة لعملية التصنيع باستخدام الكروشيه

وهنا يوجد شرائط جاهزة..

Image

ويوجد بالصالة أيضا أدوات الانتاج وبعض المنتجات التي تم الانتهاء منها..

Image

هناك أيضا أدوات (تصنيع) كانت موجودة في ذات الصالة مثل هذه المكينة التي تفرم الفلين ليتم استخدامه كحشوة لأكياس (بين باق) التي تظهر في أعلى الصورة أعلاه

ImageImage

بعد هذه الجولة السريعة، جلست لأطرح أسئلتي الكثيرة على فريق العمل..

بدأت بسؤال قذافي الصيغة (من أنتم؟)

قالت ديانا، الفكرة بدأت قبل سنوات وكان الدافع عندما حضرت عرضاً أظهر تأثير أكياس التسوق على البيئة ومدى الدمار الذي تحدثه هذه الأكياس ومن هناك بدأت أفكر في كيفية تخليص البيئة من هذا العدو ولكن في نفس الوقت خلق شيء مجد من ذلك.

سَمِعت عن عمل كروشيه بهذه الأكياس وهي لم تكن تعرف فبَدَأت بتعلم الكروشيه ومن هنا جاء وحي اسم (#تروشيه) الذي يجمع بين كلمتي تراش (نفايات) وكروشيه.

سألتها من يعمل معها؟

قالت سلسلة الإنتاج لديهم طويلة وبها الكثير من الأشخاض الذين يقومون بأدوار مختلفة..

تبدأ حالياً من (الحجّات) حيث يقمن بجمع هذه الأكياس من صناديق النفايات ويتواجدن عادة في الأحياء العشوائية مثل غليل. ثم عم عبده سائق الدباب الذي يدفعن له مقابل الذهاب إلى الحجات في أماكن تجميع الأكياس ليشترين منهن حصيلة الأكياس التي يجمعنها بالكيلو!

بعدها يتم تخزين أكياس التسوق داخل أكياس نفاية كبيرة في الغرفة التي رأيتها عند دخولي ثم يتم الاتفاق مع السيدات اللاتي يقمن بالغسيل للحضور ليقمن بعملية الغسيل في الغسالة ثم النشر لتنشف الأكياس. عندما سألتها لماذا لا ترسلون الأكياس لهؤلاء السيدات قالت إنهن يسكن في أماكن قد لا تتوفر فيها مساحة للغسيل ناهيك عن الماء والكهرباء.

بعد عملية التنشيف يتم جمع الأكياس وتعقيمها ثم يتم إرسالها لمجموعة من السيدات في الأربطة والأحياء الفقيرة لتتم عملية التقطيع على شكل شرائط يتم لفها لتكوين “كرات” يتم استخدامها من قبل السيدات الماهرات في عمل الكروشيه أغلبهن أيضا في الأربطة الخيرية لقيمن بتشكيل التحف الفنية المختلفة من هذا المنتج.

سألتها عن مدى فعالية عملية الغسيل والتعقيم في إزالة الجراثيم فقالت إنهن قد أرسلن عينات لمختبرات (الحوطي-ستانجر) وتم التأكد من ذلك – في عملي السابق في بروكتر آند قامبل كنا نتعامل مع هذه المختبرات ذات السمعة العالمية.

سألتها عن العوائق فقالت السيدة ديانا:

العائق الأول هو عدم وجود مقر كافي لفريق العمل. تقول تبرع أحدهم بفيلا قديمة لنستخدمها ولكنها تحتاج إلى ترميم وتشطيب لا يملكن تكلفته حاليا.

العائق الثاني هو اعتمادهن على الحجات في الحصول على الأكياس. رغم أنهم قد وضعن حاويات قليلة لجمع الأكياس في أماكن راقية في جدة إلا أنهن يواجهن صعوبة في جمعها لعدم وجود موارد تكفي لتعيين شخص يتولى هذه المهمة وسيارة لذلك.

العائق الثالث هو محدودية الأيدي العاملة الماهرة في أعمال الكروشيه خاصة في الفئة المستهدفة وهي العوائل الفقيرة بشكل عام. يستطعن القيام بتدريبهن ولكن هذا يحتاج لموقع مجهز وأدوات ومدربة وهذا يتطلب موارد مالية لا تتوفر حاليا. تقول السيدة ديانا أنها حاليا تقوم بالتنسيق لزيارة السجينات وعمل دورات تدريبية لهن لكي ينضممن لفريق العمل ويقمن بالاستفادة ماديا من فترة المحكومية وأيضا يمنح السجيبنة مهنة تستطيع أن تترزق منها مستقبلا.

العائق الرابع هو إضطرارهن للدفع مقدما للسيدات الاتي يعملن الكروشيه (بسبب حالتهن المادية) وهذا يجعل الفترة بين طلب المنتج وتسليمه طويلة وهذا يضايق العملاء. لو وجد لديهن وفر مالي لبناء مخزون من المنتجات بحيث يتم تسويقها وبيعها بشكل لحظي فإن هذا سوف يساعد على نمو الفكرة ويجعل العاملات منهمكات في صنع منتجات إبداعية بشكل مستمر بدلا من الانتظار لطلبيات محددة.

سألتها عن قائمة المنتجات الحالية فقالت بدور ليس لدينا حدود فيما نستطيع أن ننتجه، لدينا البين باق، غطاء للكمبيوتر، كرات سترس بول، ومظلات حدائق وفرشة يوقا أو تمارين رياضية، شنط يد، قبعات وغيرها الكثير.

ImageImageImageImage

سألت ديانا وبدور، كيف يرين مستقبل هذه المبادرة؟

قلن بنبرة بها الكثير من التفاؤل، لو نظرنا لعملية جلب المواد الأولية إلى المنتج النهائي، القيمة الكبرى هي العمل الفني باستخدام فن الكروشيه، البقية سواء الجمع أو الغسيل والتنشيف والتعقيم أو التقطيع ليست فعلا مهن ذات قيمة..نظرتنا في المستقبل أن نجد آليات أسهل وأسرع وأوفر لجميع الأكياس – ربما بواسطة وضع حاويات في المدارس وجوار المساجد لحث الناس على وضع أكياس التسوق بها بعد تفريغها وهذا سوف يقلل الحاجة لغسيل كامل الكميات (مما يوفر بيئياً بتقليل استخدام الماء والمنظفات الكيميائية والكهرباء) – وطريقة أسهل لعملية التقطيع على هيئة شرائط – ربما بواسطة آلة إما موجودة أو يتم تصنيعها بواسطة خبير في هذا المجال – ثم أن يكون لدينا شبكة كبيرة جدا من السيدات في الأربطة والأحياء الفقيرة والسجون ماهرات – بعد قيامنا بالاستثمار الأمثل في تدريبهن – يقمن بصنع تحف فنية يتم تقديرها من المجتمع وخاصة الناس المؤثرين في الرأي العام.

فاجأتها، كم تكسبين من هذا المشروع؟ ضحكت وقال بل قل كم أصرف عليه. هذا المشروع خيري لا يهدف للربح ويسعى بالمقام الأول لتعليم الكثير من السيدات اللاتي يحتجن لدخل إضافي على فن الكروشيه بحيث نستطيع تشغيلها لتستفد.

استأذنت الأخوات مغادراً وفي نفسي إكبار لإصرارهن وتصميمهن ورؤيتهن الكبيرة لهذا المشروع البيئي الإنساني.

تخيل أن يكون فعلاً رزق بعض الأسر الفقيرة من (كيسك).. http://www.youtube.com/watch?v=2xt85US-How

آمل منك أن لا تكتفي بقراءة هذه التدوينة ونشرها فقط بل التفكير بطريقة تجعلك شخصياً تساعد في دعم هذه المبادرة، تستطيع أن تطلب منتجات بتصاميم معينة لتعرضها في مكتبك أو بيتك أو محلك التجاري، تستطيع المساعدة في كيفية نشر حاويات جمع الأكياس وجمعها، إذا كنت مهندساً ميكانيكيا، قد ترغب في تصميم ماكينة تقطيع الأكياس على هيئة شرائط، إذا كنت مقاولاً قد ترغب في تهيئة الفيلا التي تم التبرع بها لكي يستخدمها فريق العمل كمقر دائم، إذا كنت مقتدراً قد ترغب بدعم الفكرة مادياً لتقف على أقدامها بثقة، إذا كنت إمام مسجد تستطيع وضع صندوق لجمع الأكياس وحث الناس على ذلك، إذا كنتِ مديرة مدرسة، ضعي حاوية لجمع الأكياس بالمدرسة وحثي الطالبات على إحضار أكباس التسوق من البيت ووضعها فيها، إذا كنت صاحب مصنع أكياس بلاستيك فتبرع لهن بالرجيع أو القطع التي تنتج من العملية التصنيعية، لو كنت مشهوراً ومؤثراً في المجتمع فاستخدم منتجات #تروشيه وفاخر بها لكي ترفع من قيمتها في أعين الناس وتصبح مطلوبة.. لايوجد حدود لكيفية دعم هذه الفكرة..

وأنا في طريق خروجي شاهدت شيئاً آخر له علاقة بإعادة استخدام المنتجات بطريقة إبداعية..طاولات من كفرات السيارات والشاحنات!

Image