استيقظنا في نفس الموعد قبل الصلاة وكان البرد قارساً ذلك الصباح لدرجة أنه تكونت طبقة بيضاء من الصقيع على أكياس نومنا وشناطنا وكان كل شخص يرغب بتأجيل خروجه من كيس النوم لأطول فترة ممكنة!
استيقظت وأحسست بشعور من تعرض للدهس بواسطة (وايت) من تعب المشي لدرجة أني وجدت صعوبة في رفع رجليّ للخروج من كيس النوم!
عباطة وعلي السوداني قاما قبل الجميع كالعادة وأشعلا ناراً جديدة بعيدة عن نار المخيم التي اشعلاها البارحة لأني أنا ومحمد القويز نمنا قريبين من تلك النار ولم يرغبا بإزعاجنا على ما يبدو..وأكبرت ذلك فيهما!
تحلقنا وعلينا فرواتنا حول النار نشرب الحليب الساخن بالزنجبيل بنهم لنشعر بالدفئ ونزيد من الحطب على النار وبعدها صلينا وكانت الجمرية تخبز في تلك الفترة وأفطرنا وسارع الجميع لتجهيز جمالهم وتحميل متاعهم كل على ظهر جمله أو ناقته حيث اعتدنا على هذا الروتين ومع الوقت أصبح ما في ‘الخرج’ أخف فيسهل وضعه على الشد بدون مساعدة!
في هذا اليوم قررت من البداية أن لا امتطي ناقتي وأن أمشي كامل اليوم فاقترح علي عبدالعزيز العمران أن يعطيني خفيه الجلد (يشبه الخف الذي يلبسه المطوفون في الحرم) حتى يحمي قدمي من الشوك لأني أصبحت لا أستطيع لبس الحذاء الرياضي لوجود تقرحات بإصبعي قدمي الصغيرتين وكان هذا الخف رائعا لأنه يعطيني الفرصة للمشي بدون النظر بين قدمي محاولا تجنب الشوك!
كان من الواضح أن الدكتور بدر يرغب بالمشي ولكن وضع قدميه لم يكن يسمح له بهذه الرياضة الممتعة المتعبة فاقترحت عليه أن يريح قدميه حتى فترة بعد الظهيرة فامتطى جمله وأنطلقنا أنا على قدمي وهم على رحالهم!
في هذا اليوم كان صوت القويز (ملعلعاً) أكثر من أي يوم وهو يصول ويجول ممتطياً ناقتي النشيطة (عيدة) فتصور نفسه فجأة محارباً من عصور الجاهلية أو صدر الإسلام وانطلق يجري خلف ناقة طارق السديري يبارزه بالخيزرانة التي في يده ثم ينطلق خلف مازن والجميع إما يضحك مقهقهاً او ممسكاً بكاميرته يصور المبارزة الصحراوية بين الفارس المحارب ابن القويز وأعداءه الافتراضيين!
كان الاتفاق الذي تم في الليل بين طارق السديري والشخص الذي سوف يقتفي أثرنا أن يقابلنا بعد ‘الردمية’ وهي طريق مردوم غير معبد يخرج من الطريق الرئيس يستخدم كمدخل للصحراء لأن بقية الطريق مغلق بشبك حديدي يحمي السيارات من الجمال السائبة!
كلما ظهرت على جوال عباطة (ابو عطالله) إشارة حاول الاتصال بذلك الشخص ليشرح له موقعنا ساردا أسماء أماكن لم افهم معضمها!
توقفنا للاستراحة في منتصف النهار وكانت الوقفة قصيرة مقارنة بما سبقها – حتى نصل للمكان الذي نتوقع أن يلحق بنا فيه مقتفي أثرنا – ولم نطبخ الشاي او القهوة واكتفينا بأكل التفاح والبرتقال قبل أن يفسد – وكان مخبأ في خرج جمل مازن – وأكل ما يظهر أحيانا من المتع المهربة (باونتي بارز ومافي حكمها) وللفواكه قصة حيث أن عباطة الرمالي لم يأكل الفاكهة في حياته قط وحاولنا خلال الرحلة ولم نفلح حيث يعتقد أنها ليست للرجال ويقل احترام أهل البادية لآكلي الفواكه الناعمين!
ولعباطة معتقدات كثيرة غير الفواكه حيث أنه يحب السكر في الشاي لدرجة أنه بعد أن أصبح يطبخه بدون سكر يضع في ‘بيالته’ كمية من السكر مساوية لكمية الشاي ويجاريه في ذلك علي السوداني وأخبرنا أنه في البادية لديهم معتقد أن من لا يشرب الشاي بكمية كبيرة من السكر فإنه ‘بارد’ وأداءه كزوج ‘لك عليه’.. من هذا المنطلق اكتشفت أن العبدلله والقويز وطارق ‘الله يخلف عليهم’ لأنهم يستخدمون ‘سويتنر’ مع الشاي (يا عيباه) وبقية الرحالة نص نص لأنهم يستخدمون كمية قليلة من السكر!
وينصح عباطة الرمالي بالابتعاد وعدم سماع كلام ‘الدخاترة’ لأن ماعندهم سالفة وهم اللي يسببون المرض!
في فترة بعد الظهيرة أنطلقنا وقد ترجل مجموعة من الرحالة لمشاركتي المشي ومنهم الدكتور بدر ومحمد القويز وطارق السديري وقد شاهدنا خلال هذا اليوم ثعلباً أو ثعلبين وآثار الجرابيع في كل مكان!
بعد فترة، اضطر الدكتور للركوب مرة أخرى لعدم قدرته على مواصلة المشي بسبب سوء وضع قدميه وترجل عطباطة ليمشي قليلاً وكنت أمشي بجواره في المقدمة وفجأة توقف أمام شجيرة صغيرة وقطع منها شيئاً وناداني فسألته فقال ‘عِلْتش’ فأعدت السؤال ‘هه؟؟’ قال ‘علتش.. خذ اعلتش’ فإذا به يناولني قطعة لبان قطفها من تلك الشجيرة فاستغربت من وجود شجرة لبان في نفود السعودية فمضغت جزءاً منها وأعطيت جزءاً للقويز وكان طعمها رائعاً!
عند الوصول لموقع مرتفع (لعلنا نلتقط إشارة جوال) حوالي الساعة ٥ عصراً قررنا التوقف للمبيت وجمعنا الحطب وجهزنا أماكن نومنا وبدأ عباطة كلما لمعت علامة شبكة الجوال يشرح للشخص الذي سوف يحضر ليقل الدكتور بدر لحائل أين نتواجد بينما تم تجهيز القهوة (قهوي) والشاي وبدأ ابو عطالله يشرح موقعنا ومازن وأنا والقويز نذكره بالبيبسي والدايت بيبسي والسفن.. وسأل مازن اذا كان عندهم في جُبة (نقطة نهاية رحلتنا على مشارف مدينة حائل) بيتزا أم لا..وتنهد تنهيدة كادت تدمع معها عيناه!
بدأعباطة وعلي السوداني ( أكرر قول السوداني لكي أفرق بينه وبين علي الجيزاني) بتجهيز الكبسة بحيث يتعشى معنا الدكتور ومن سوف يحضر ليقله..
قبل الثامنة وكأنه يمشي في شوارع المدينة وصل فهد بسيارة إف جي كروزر لمخيمنا فسلم عليه الجميع ورحب به وعيوننا على السيارة فأنفرجت أسارير الجميع ونحن نرى كرتون بيبسي وكرتون دايت بيبسي وكيس ممتلئ دايت سفن أب يتم إنزالها من السيارة وبدأت على مازن والعبدلله حالة من قضم الأظافر في شوق لصوت فتح تلك العلب 🙂
قمت باستغلال وجود سيارة لشحن جوالي الآيفون حيث أن بطارية ستيف جوبز لك عليها وكنت أستخدمه ككاميرا طول الوقت!
جهز العشاء وتحلقنا حول التبسي كل منا ممسك بعلبة مشروبه الغازي في نشوة عجيبة فتعشينا ولم أكن اسمع أصوات (تكريعنا) بعد الأكل قبل تلك الليلة!
بعد العشاء جهز الدكتور حقائبه وحملها في السيارة وتلحف فروته وودعناه بحزن لرغبتنا في استمراره معنا لنهاية الرحلة وأنا شخصيا سوف أفتقده لأنه أكثر شخص شاركني المشي!
أوصيناه إذا وصل الرياض أن يحث زوجته على الاتصال بزوجة عبدالعزيز لتقول لها الحمد لله على سلامة رجوع عبدالعزيز والهدف توريط عبدالعزيز 🙂
قبل انصراف فهد (صاحب السيارة وليس العمران) مع الدكتور قام فهد ‘بحجزنا’ على العشاء في إذا وصلنا جُبة بعد وصولنا لها بعد يومين ووعدناه نرد له خبر!
بعد مغادرة فهد بالدكتور تحلقنا حول النار وفتحنا نفس الموضوع (البطالة والسعودة) الذي بدأت أنا وعبدالعزيز نقاشه قبل ليلتين على نكهة السيجار الكوبي! واتضح لي أن هذه المجموعة قد قامت برفع توصية لوزير العمل بعد قيامهم بتحليل الأوضاع الحالية فأكبرت هذه المبادرة ولم أكن لأتوقع أقل من ذلك من هذه الكوكبة من العقول واستمر نقاشنا حوالي الساعة ثم أنصرف كل منا لمكان نومه محاولاً التحصن من البرد الشديد مثل اليوم الذي سبقه..
يتبع ((٦) رحالة الصحراء – عباطة يقع في غرامها)
i like it
من ثاني تدوينة و انا ناوية اسأل كيف تشحنوا كاميراتكم و جوالاتكم وماعندكم مصدر كهرباء بس التدوينات كانت مشوقه جدا فاكملت قراءة….الاجابة هنا.
مقتفي الأثر اللذي لحق بكم هل اعتمد على المكالمات التلفونية فقط؟ ام اقتفى اثركم بالطريقة التقليدية مثل اللي نسمع عنهم؟
سرد مشوق… في انتظار الباقيات
شكرا.
طبعاً أشعر بسعادة أن مدونة مخضرمة مثلك عدت على هذا السرد لإحداث رحلة صحراوية 🙂
كان معنا بطاريات إضافية للكاميرات خاصة والجوال في حالة استقبال بدون مكالمات تذكر وبعضنا معه جوالين لمن يطفي واحد يشغل الثاني وهكذا
أما مقتفي الأثر فاستخدم الطريقتين والوقت لم يكن وقت رياح فالآثار تبقى لأيام..بالنسبة لي الصحراء كلها شي واحد، لمن في المنطقة يعرفون أسماء المناطق تماما مثل البحارة ومعرفتهم أسماء أماكن الصيد قبل الجي بي إس والبحر كله ماء 🙂
آشكرك جدا على الرد … سبحان من علم الانسان ما لم يعلم …طبخ على الرماد و اقتفاء أثر .
تقنية اقتفاء الأثر هذي جميلة و مشوقة جدا، في نظري تضاهي تقنية الجي بي اس بل تفوقها 🙂
و ما دام الكستومر سيرفس عندك بهذه الجودة سأتجرأ وآطلب منك -إذا آمكن طبعا- ان تشاركنا في تدوينة اخرى بعض وجهات النظر التي تبادلتموها عن موضوع البطالة في السعودية.
“مدونة مخضرمة” مبالغة كبيرة ….لكني آتقبلها بكل رحابة صدر 😉
بالنسبة لموضوع البطالة الذي ناقشناه بكل برجوازيه ونحن ندخن السيجار الكوبي (وهذه مفارقة غير مقصودة) فهو موضوع شائك وكان لنا وجهات نظر مختلفة للحلول وأعتقد برنامج نطاقات هو ناتج لكثير من النقاشات والحوارات والأفكار في المجتمع وبعض الأفكار التي ناقشناها وجدنا بعضها في نطاقات ولكن النقاش كان ممتع جداً..